اختفى سرحان عبد البصير في ظروف محيِّرة، فقد أضاع أثره الرقيق المقدّم أحمد عبد السلام ومجموعة المخبرين الظرفاء وحضرات السادَةِ المستشارين الهرمين، انتظروه كثيراً ليعود إلى براءته في الرابعِة عصراً، مرتدياً دور “سفروت” الكرتونيّ، أو ذاهباً في المواصلات المكتظّة إلى حديقة نائية عن الناس ليصادق الحيوانات الشديدة الألفَة.
عبثاً انتظره البواب الطيّب حتى يؤوب إلى بيته خفيفاً يحمل أكياس الخضراوات الورقيّة، يتحضر رائقاً لإعداد السوائل الساخنة، ويتناول الأكل الصحيّ، ويغلق التلفاز بعد أن يصدّق كلّ ما نقله المذيع عن ألسنة أصحاب السعادة الوزراء.. فالرغيف كبير كالحلم، والشقق السكنية متوفرة بأسعار زهيدة، والمواصلات فارغة تستجدي الركاب، والمسؤول البشوش يرجو المواطنين الكرام فكّ الأحزمة.
لكنّ سرحان عبد البصير لم يعد حتى لحظة كتابة هذا التقرير، فقد تخلَّف عن حضور جلسة حاسمة في المحكمة للنطق بالحكم، بصفة مستمعٍ جيد، قد يتطور دوره للهتاف مؤيّداً، أو التصفيق بفم مفتوح إن استعصت عليه اللغة القانونية الصرفة في وقائع الحكم. لم يعد سرحان، وما يزال غيابه محاطاً بالتكهنات الإعلامية المغالية في التحليل، إلا أن تسريبات خبيثة المصدر أفادت أن عودته قريبة، وأنه سيدلي بشهادة معدّلة بعد أن رأى “كل حاجة”!
أما الحقيقة التي اكتشفت كاملةً فيما بعد فتقول بوضوح تفصيلي إنّ سرحان عبد البصير الذي كان لثلاثين عاماً رجلاً ساذجاً وبالغ الطيبة، وتأكل القطة العوراء عشاءه، لم يختفِ تماماً، فقد شوهد بملامح غاضبة في السابع عشر من كانون الأول (ديسمبر) 2010 في شارع الحبيب بورقيبة، يملأ صوته بأول الهتاف: “الشعب يريد إسقاط النظام”، وبمجرد أن استوعب بن علي ما يريده الناس، وأدرك متأخراً أن “لا رئاسة مدى الحياة”، وجلس من دون مقاومة على قارعة التاريخ، شوهد مرة ثانية بملامح أخرى في ميدان التحرير، وفي شارع “محمد محمود”، يردّ على الرصاص الحيّ للأمن المركزي، بكلمتين بليغتين “ارحل يعني امشي”، حتى وقف أبو الهول على قدميه، ومشى.
ظهر سرحان عبد البصير أيضاً في صنعاء بملامح سمراء من فرط التعب، حاملاً خنجراً مسالماً لم يُصوّبه على المدافع الثقيلة، ظلّ جالسا يمضغ القات تحت الشمس التي لا تغيب، حتى فات العبد غير الصالح القطار. وخرج سرحان سالماً من الأذى العشوائي على مصراتة، وراوغ الموت في بني الوليد حتى كسر أقواس النصر في باب العزيزية، وما يزال بملامحه الدمشقية ينقشُ على جدران حلب القديمة آيات الثورة.
يتجول سرحان الآن ببصره الحادِّ في كلّ الشوارع العربية، قد يوقفُ السير لأسبابه الخاصة، ويعترض بجرأة على مجرى الحياة العامة، ثمّ يظهر مساء بملامحه الأصلية، في ساعات الذروة الإخبارية، على محطة فضائية لا يمكن حجبها، ليُبدي تحفظه الشديد على تضخم حصته من الدّيْن العام، ويواجه الوزير المضطرب عبر الأقمار الصناعية بجرأة مسرحية زائدة لا تحاسبه الرقابة عليها، وحين لا يعجبه الردّ الرسميّ ينزل إلى شارع الحبيب بورقيبة، ثم إلى ميدان التحرير، وساحة المرجة، وليس معه سوى الله.