فقدتُ أبي النائم وأمي التي تنام مبكراً لتراه، لون وجهي بعد أول خيبة في الحبّ، فقدته أيضاً. ومن جملة ما فقدت: شجرة السرو في قريتنا التي سقطت مغشياً عليها، ديوان أهدتني إياه طالبة اللغات القديمة مكتوب بالأبجدية المصرية، شعرتان بيضاء وسوداء على وسادتي الطرية. أشياء كثيرة أسير الآن في الشارع دونها. اسمي أيضاً نسيته من جملة النسيان، كانت تناديني به أمّي لكنّها كفَّت عن ذلك منذ صار يتعبها صعود الألف.
أنا هنا منذ خمس حروب وسبعين معركة وثلاث غزوات. بالأيَّام لي تسعون ألف خطوة أمام السلام منزوع العدل، وبالسنوات لي خمسة وثلاثون بياناً أوّل، والآن أنا في العقد الرابع من كامب ديفيد، وبعد أيام من الهدنة سأصاب بأزمة منتصف النجاة. أخجِل مني لأنّي حيّ والموت مجّاني بالسيف والرصاص والخازوق المدبّب، أو من فرط الجلوس أمام نشرة أخبار الثامنة والنصف. لستُ سعيداً لأنّ نشرة الوفيات تجاهلت اسمي، كان يمكن للمذيعة أن تكتفي بالقول إنَّ رجلاً مات عن عمر يناهز ألف نبأ لوقف إطلاق النار.
أنا من أرض الله، وكانت قبل كذا حرب، واسعة والسماء رايتها الزرقاء. جدّي ذهب إلى الكوت حافياً، أكل من نخلة دانية في البصرة، وشرب بكفه ماء من دجلة، ونام نصف الليل، واستفاق على موال غزاليّ “أقول وقد ناحت بقربي حمامة”. أبي عاشقٌ قديمٌ عدّل ياقة قميصه في مرآة بردى، وكان له موعد حب متأخّر على الضفة اليسرى لنهر الأردن. أنا يا أخوة الماء من بلد النّهر قبل أنْ تصبح البلد بلاداً والنهر جداول.
قبل قليل كنتُ شاعراً في صنعاء مات منتحراً بعد أن كتب على صفحته الزرقاء: مَرّوا. وقبل وقت ما كنتُ مغنياً من الموصل لكنّ السكين التي جزت عنقي زنّرت خصرها بحبل صوتي. كنتُ عازف ربابة في الرقة لكنّ الوالي أمر بتغيير مهنتي إلى شرطي أمر وداعية معروف، وعاشقاً بكراً سأكون بعد قليل في بنغازي، ويعدني “الأمير” بامرأة بيضاء، رغم أنّي أبيع ما بعد الدنيا من أجل سمراء وقصيدة نَبط بين عينيها.
بعد ألف صفحة من كتاب التاريخ، أريد أن أعود. لكن إلى أين: الخيل العثمانية عادت إلى الآستانة، والجنود الفرنسيون التقطوا صور الوداع على قاسيون، وغابت الشمس عن جنوب بريطانيا. لا عربة مدفع تعيدني إلى الحدود الوهمية للخامس من حزيران، هناك فقدت نصف يدي وسيناء وضفّة. لا طائرة شراعية تعيدني إلى الخامس عشر من أيار، قد أعثر هناك على اسمي فأهديه لامرأة تغنّيه على مقام البيات. لا حافلة خضراء يمكن أن تأخذني إلى الثاني من آب، لأعيد ترتيب الأخطاء من الغزو حتى التاسع من نيسان، وأسمع الدويّ، وأعدُّ العواصم التي سقطت مغشياً عليها.