لا شيء يحزنني في هذا المساء الكئيب. ولا شيء يستدعي أن ألتحق بـ “الفرح العام” في الحيِّ المصابِ بالطاعون، وأمراض طفيلية لا تُرى. لا شيء يدفعني للبكاء إنْ تعرّت شجرة التوت أو تخثَّر الزيت في الزيتون، ولا نية لي للحاق بآخر غيمة بيضاء تأخّرت عن قطيع الرماديّات، أو استبقاء كفّ امرأة في كفّي حتى يختمر الهوى.
ولا شيء يدهشني في هذا الصباح الغريب، وإن حفلت الصحف اليومية بأخبار الرّجل الذي عضّ الكلب، وإن شاهدت الديمقراطية تمشي على قدمين رياضيّتين في الحيّ المحاذي لشارع جامعة الدول العربية. لا شيء أبداً.. لا نزول الرئيس عن الكرسي بنصف إرادة، ولا دخول المعارض إلى القصر الجمهوري.. بقدمه اليسرى.
طابور صباحي ممل من العادة والاعتياد والمعتاد، فلا بحة جديدة في صوت فيروز حين تنادي على “شادي”، والوزن الموسيقي رتيب في القصيدة التي يقرؤها المذيع بشعر أسود مصبوغ لحثّ العصافير على البلاهة. حكمة اليوم في الإذاعة المدرسية كانت تصلح أكثر للأسبوع الماضي، فلن آخذ بها، وسأرمي عقلي السليم من جسمي غير السليم.. نكاية بغرفة المعلمين.
وعندما يأتي المساء من جديد بإيعاز من محمد عبد الوهاب، لا شيء يخالف دوره في كتاب الليل: اللون الأصفر ينتشر في الشوارع كبديل تجاريّ عن خيوط الشمس، الشاي في المقاهي مرٌّ ولو بخمس ملاعق سكر، ومنسوب الثرثرة في معدله السنوي على جانبيّ النيل، ولا جديد تحت القمر، حتى الشاعر الحداثي الذي يرى فيه وجه حبيبته.
لا شيء يهمّني في هذه الظهيرة الكسولة كمشي امرأة تأخّر وضع حملها: حادث السير الذي أفضى إلى موت السائق والراكب والماشي، إجراء ضروريّ لإكمال سنّة الحياة، وتجديد سكّان الأرض، أما صافرة شرطيّ المرور، فستحتفظ بدلالتها ولن يتغير المعنى برفع اليد إلى الأعلى ليفيد أن السيارة قد وقعت في مصيدة التسلل.
لا شيء يُدهشني لا عودة شادي، ولا حمْل رقيب السّير لعصا الكمان، أو إذاعة عشرين قصيدة حب وأغنية يائسة بعد موجز دمويّ للأنباء. ولا شيء يحيّرني، لا اختفاء الطائرة الماليزية، ولا تحالف القبعة مع العمامة. لا شيء يدمعني حتى صوت العود في شريط الكاسيت الذي له لون الشاي بالحليب، ولا شيء يفرحني حتى فوز الكاميرون بكأس العالم.
“عض رجل كلباً” خبر صار عادياً مع مرور نشرات الأخبار، وكل ما كان غير متوقع أصبح معروفاً، ومفروغاً منه، وكل ما لم يحدث بات محتملاً مثل منخفض جوي كاذب، ومكرراً مثل سهرة الخميس على التلفزيون المحلي، وملتبساً كعبارة “شاهدتُ هذا الفيلم من قبل”. لقد تكررت كل المعجزات حتى أنه يمكن بناء حدائق بابل في المنامة.
حاجباي لا يرتفعان ولا ينحيان، عيناي لا تجحظان، وشفتاي لا تستجيبان للحبّ. جلدي لا ينكمش ولا يقشعرّ، شعر رأسي كفّ عن الوقوف إلاّ بالمثبتات، وما يبدو شيباً ناتج عن سوء الإضاءة البيضاء، أما قنوات الدمع فهي مسدودة منذ أن سقطت الشيلة عن رأس بغداد، وهذا كله يعني أن جهازي العصبي مفصول من الخدمة.