وأبو جواد هو كاظم، أي كاظم في العراق، حتى لو كان كاظم الساهر، وهو المقصود.
كان اسمه في بدايات الثمانينيات “كاظم جبّار إبراهيم السامرائي”، ومع بدء ظهور اسمه على التلفزيون المحلي، سَخِر منه ملحّن معروف، وقال إن “كاظم جبّار” اسم يصلح لبائع عصير، لا إلى مطرب.
لكنّ العراقيين في الثمانينيات والتسعينيات، باستثناء ذلك الملحن، أحبّوا “كاظُم جبّار” ونادوه أبو جواد، رغم أن له ابن اسمه “وسام”، لكنّ التحبّب غلب الوثائق الرسمية، تماماً كما يحدث في مصر، فكلّ “حسن” هو “أبو علي” ولو كان اسم ابنه زاهر!
طال حبُّ العراقيين لكاظم، وكثير منهم يتذكر التزاحم على حفلاته في بابل، وكيف كان يزيد عن جمهور الزوراء والقوة الجوية معاً. خرج كاظم من العراق آخر مرة في أبريل (نيسان) العام 1998. أقام حفلاً في نادي الجادرية، في موعد معتاد للاحتفال بعيد ميلاد الرئيس الراحل صدّام حسين. ولم يعد. قيل إن سبب خروج كاظم خلافه مع عديّ، ابن الرئيس صدّام، لكن لا تأكيد سوى ما قاله طبيبُ صدّام، في كتابه عن واقعة الحذاء.
لم يعد كاظم إلى العراق. مات أبوه، أمه، أمّ ولدَيْه، شقيقاه، شقيقته، وكثير من أصدقائه، دفنوا جميعاً من دون حضوره. عاد مرة واحدة اضطرارياً لساعات قليلة في مايو (أيار) العام 2011. صافح بقميص اليونيسيف الأزرق عدداً من الجنود، والصحافيين في مجمّع الأمم المتحدة في المنطقة الخضراء، لاستلام جواز سفره، سفيراً للنوايا الحسنة، ثمّ غادر بغداد، ولم يعد.
وكما “كظم” كاظم سرّ خروجه من العراق، كظم أيضاً سبب عدم عودته.
لكن، لماذا يكره عراقيون أبو جواد؟!
يكتب أولاد مراهقون من مواليد 2004 تعليقاً على فيس بوك يشكّكون بعراقية كاظم جبّار لأنه طلب من الحكومة تعديل اسمه في الوثائق من السامرائي إلى الساهر بسبب إشكاليات معقدة تواجهه في أوراقه الرسمية، ليخرج كاظُم المولود في الموصل في العام 1957، في فيديو كئيب أكثر كآبة مما تبدو عليه ملامحه، ليؤكد أنّه عراقي، ولا ينسى أنه ابن أمّه نوريّة، وابن حيّ الحريّة.
أيضاً، لماذا يكره العراقيون، هؤلاء، أبو جواد؟!
بعد الاحتلال الأمريكي، في ربيع 2003، خرج لاعبون وفنانون للحديث عن فظائع نُسبت إلى عديّ صدام، وكيف كان يهينهم في الحفلات الخاصة. كان العراقيون، هؤلاء، يتوقعون أنّ لدى كاظم الساهر الكثير ليقوله عن عديّ، وواقعة الحذاء، وسبب خروجه الغامض من العراق. في أول حوار، نفى كاظم، بعد أن ترحّم على عديّ، أي شائعات عن خلاف وإهانة، ثمّ وصفه بـ “الصديق” وإن أضاف فعل كان الناقص.
توقّع العراقيون، هؤلاء، أن يجاري “كاظم” زملاءه من المطربين الذين تسارعوا بعد سقوط بغداد للتصريح بأنهم كانوا يجبرون على الغناء لصدام. ولأنّ كاظم يعدُّ أكثر من غنى للرئيس الراحل، فلا بدّ أن يقول كلاماً مشابهاً. لكن الساهر خرج في تصريح نادر متلفز لا يمكن التشكيك فيه، بأنه لم يغنّ لصدّام مرغماً، ووصف كل من زعم بأنه غنى مكرهاً بـ “الكاذب”.
لم يلتق كاظم بصدّام. ولم يكن مزاج صدّام الغنائي يمكن أن يستوعب غناء كاظم. يزعم سعدون جابر أنّ صدام كان يحبُّ غناءه، لكن المعروف أن ذائقة صدام الغنائية أقدم من سعدون وكاظم.
تحدّثت تقارير إعلامية (غير مؤكدة) أن “صدام” امتدح كاظم الساهر في أكثر من اجتماع، للدور الذي يقوم فيه في تقديم معاناة الشعب العراقي وأطفاله من الحصار الأمريكي. فقد غنى الساهر على مسرح في دبي أمام ولي عهد الإمارة “تذكّر كلما صلّيت ليلاً ملاييناً تلوك الصخر خبزا”، فتحرّكت في اليوم التالي إلى ميناء العقبة الأردني أول باخرة عربية محملة بالأدوية إلى العراق المحاصر.
كان ذلك في العام 1997، عندما اقتحم كاظم مسارح عربية وعالمية كانت مغلقة تماماً على الفنّان العراقي، قدّم فيها رواية العراق عن ألمه. كان الساهر ينتشر اسمه بسرعة غريبة، حتى أن متعهداً لبنانياً أطلق عليه لقب “الساحر”. فمنذ العام 1988، عندما غنى كاظم احتفاء بتحرير الفاو من الاحتلال الإيراني، وشهرته تكتسب كلّ سنة أرضاً جديدة، بدأها بالكويت، ثمّ الخليج كله، فالأردن ولبنان ومصر. استغلّ النظام العراقيّ السابق هذه الشعبية المتسارعة، بأن منح كاظم ضوءاً أخضر للدخول إلى أي دولة يستطيع الدخول إليها، وبعد أغانيه العراقية الشعبية، يقدّم واحدة من أغنيات الحصار. هكذا دخل إلى سوريا لا بوصفه معارضاً مثل الجواهري ومظفر النوّاب، بل ابن النظام الذي منحه في أول التسعينيات لقباً ثقيلاً: سفير الأغنية العراقية.
هناك، غنى “آه يا عرب” الأغنية التي يمكن وصفها بـ “البعثية” فهي تشكو تخلي العرب عن العراق بعد أمّ المعارك، العراق الذي جاع وجُرح وحمَلَ الجرح بصبر الأنبياء، والذي شرّفه الله باختبار الصدق في زمن الرياء، كما تقول الأغنية.
ثمّ غادر العراق، ولم يعد. ظلّ يغني على المسارح العربية والعالمية رسالة الحصار، ولما سقطت بغداد، كان المطرب العراقيّ الوحيد الذي دان الاحتلال تصريحاً وغناء، وبينما كان حُكام العراق الجدد يستقبلون جورج دبليو بوش مع انتهاء فترة حكمه لتكريمه على احتلاله ومجازره، كان كاظُم يخرج في حوار متلفز، ليصف بوش في تصريح نادر بأنه “المجرم الأول” في العالم الذي احتلّ بلداً ودمّره ليطرد رئيسه.
وهكذا عندما جاءت ذكرى ميلاد صدّام حسين قبل عامين، لم تختر ابنته رغد من بين مئات الأغاني التي كانت تذاع في يوم ميلاده، سوى أغنية لكاظم الساهر لتنشرها عبر حسابها الرسميّ على تويتر، كما لو أنها تمتنّ لمواقفه: المعلن منها والمكظوم!
إذاً العراقيون، هؤلاء، يكرهون “كاظم” لأنه لم يلعن صدام وعدي وقصي، ولم يقل ما يحبون سماعه.
ويكرهون “كاظُم” وينزعون من اسمه حركة الضم فوق الظاء، كما لو كانوا ينزعون عنه “العراقية”، وينادون باسمه “كازم” كما يُنادى في الشام وبيروت والقاهرة وأطرافها، وكأنهم يقولون “هذا لا يعنينا في شيء” إنه شامي أو تونسي أو خليجي.. المهم ليس عراقياً، لكن هذا الطرد يحتاج إلى أسباب أقوى، فتنشأ حملة شرسة ضد الساهر لأنه كان يغني في حفل في القاهرة بينما يحيي قسم من العراقيين في كربلاء يوم عاشوراء، ويعيدون رواية مقتل الحسين التي وقعت قبل ألف وأربعمائة سنة. وهكذا أصبح كاظم ابن نوريّة الشيعية، وجبّار السني، خارج المِلة، وابتكر العراقيون، هؤلاء، اسماً جديداً له: “كاظم السافل”.
وأيضاً، لماذا يكره العراقيون، هؤلاء، أبو جواد، أو “أبو جويدة” كما كانوا يندهون باسمه وهم يبالغون بالحبّ العراقي القديم!
لأنه لم يتضامن بعبارات صريحة مع الشباب الثائر ضد الطبقة السياسية الفاسدة التي تحكم العراق الآن، واختار كلاماً عاماً لا يؤذي أحداً في أغنيته الداعمة لهؤلاء الشباب “عراقنا”. وهذا صحيح، فكاظم يتجنب الاصطدام بهذه الطبقة، بل يتجنبها تماماً. ويكرهونه لأنه لم يأتِ إلى البصرة لحضور افتتاح حفل كأس الخليج الذي تقيمه هذه الطبقة السياسية الفاسدة!
وأسباب لا عدّ لها، يلجأ إليها العراقيون، هؤلاء، لنزع العراقيّة عن “كاظُم”، فأمسك بعوده وغنى من أبيات عبد الرزاق عبد الواحد “نسيتَ بغداد”، ليقول إن لبغداد “عدُّ المسامات في جلدي تفاصيلا”، فقالوا: “بعثي يغني لبعثي”!
ليس مهماً من يكره كاظُم ويناديه “كازم” فهؤلاء لن يعيشوا عمراً فوق أعمارهم، أما العراق فسيبقى، بأسمائه: بدرٌ وفراتٌ وكاظُمْ.