تعلّمتَ منذ كنتَ أبيض كقطعة القماش المهيأة لاستقبالكَ مولوداً ذكراً يحمل أوزار العائلة، كتابة اسمك من أربعة مقاطع متنافرة الإيقاع، وتغليظ القلم الرصاص ذهاباً وإياباً فوق حروف المقطع الرابع. كبرتَ على الاعتقاد أنّ الحيّ الذي سكنته عائلتكَ قبل نصف قرن انصياعاً لقانون جلوة الدم، هو سرّة الكون، وأن مدينتك هي عاصمة المدن، وأنّ عاصمتكَ هي نقطة التعادل بين الجغرافيا القريبة والجغرافيا البعيدة، ووطنكَ كما هو في النشيد المنفعل: عالٍ ولا غبار فوق جبينه.
في المدرسة دعاكَ مدرّس اللغة العربية أن ترفع رأسكَ عالياً، وتفتخر لأنّ جدّك المتنبي والبيداء على الأقلّ تشهد بذلك، ومعلم الاجتماعيات أقنعك أن عمّك السابع هو ابن خلدون، بل إنّ صداقة كادت تعقد بينك وبين “خلدون” في قرن ما لولا تأخر ولادتك أحد عشر شهراً. أستاذ التاريخ أخبركَ أيضاً أنّ لك أرضاً متنازعاً عليها على بُعد شجرتي سرو من قصر الحمراء في غرناطة، وإن لم يكن بإمكانكَ استعادة مُلْكٍ لم تحفظه كالرّجال، فإن عليكَ أن تمتلئ، كالنساء، بالنرجسيَّة التي لا تضرّ ولا تنفع.
أنتَ الكاملُ المكتملُ، ابن أبيكَ الذي قاتلَ ضبعاً في الخلاء، وصرعه في الروايات المختلفة التي احتكرتها جدّتك، وحفيد جدّك لأمّك الذي كان جندياً خارجاً عن السيطرة، قاتل الاستعمار ونوعين من الاحتلال وبندقيته في متحف العائلة الذي استعارته الدولة. أنت ابن النسب والحسب الضائعين، والحيّ الذي فقد موقعه الاستراتيجي، والمدينة التي تسدّ شرايينها أزمة سير في غير أوقات الذروة. ضع ما تشاء من الأسباب قبل واو السببية، وقُل كما لم يقل جدّك المتنبّي بالسيف والقلم: “أنا.. وأفتخر”.
أما أنا، وأعوذ بالله منّي، لي نسب غير بعيد من عائلة مرضى البواسير، ولدي ورقة مطوية بخجل في أرشيف آل الكبد الوبائيّ، وسيرتي مشرّفة لدى أسرة الأمراض العصابية، صاهرتُ الكرام من أصحاب العيوب الوراثية البائنة، و”كانت امرأتي عاقرا”، وفي المثنى والثلاث والرباع تزوّجت من مراجعات ملتزمات بالتناوب على عيادة الأنف والأذن والحنجرة على التوالي. أنا.. لكنّ اسمي نسيته في كشف مختصر لمرضى السكّري، واسم أبي محاه “العاطل”، وعائلتي فقدت رقمها في قائمة الشرف الأولى للتصلب اللويحي، لم يبق مني إلا صورتي العابسة في لوحة حائط جمعية الابتسامة العريضة للعناية بأصحاب الشفاه الأرنبية.
أنا يا جاري في الحيّ، ونسيبي في المدينة، وأخي في العاصمة، ليس لديّ أسبابك للفخر، فجدّي مات بسكتة دماغية شائعة في بلادنا، وجدّتي لم تكن مغرمة بنقل حكاياته المفترضة مع الضباع، وأبي لم يحارب الاستعمار القديم، وأمّي لم تعلّق بارودته على الجدار المستأجر، وأنا ابن الصدفة التي جمعتهما، لستُ أكثر، ربّما أقلّ، وحين أفكّر في سبب واحد قبل واو السببيّة، أجدني محرجاً كتلميذ قرويّ في مدرسة أبناء الذوات، يؤجّل الإجابة عن سؤال الحسب النسب، وإن اضطررتُ سأجيبُ بفخر منقوص: أنا من برج السرطان!