كانت صرخة الولادة هي الاحتجاج الوحيد الذي أتيح له أن يصرّح به قبل ثلاثين عاماً، ليخرج زهو أبيه إلى العلن، لكنّ صراخه الغامض لم يستمر أكثر من أيام التهنئة لمولود بِكر، إذ أسندت أمه إلى مصّاصة مطاطيّة مهمّة إسكاته، فتدجّن صوته الساخط، وتأخّر نطقه، وعبثه. في الثالثة حمله أبوه الذي كتمَ زهوه، إلى امرأة تعلمه الكلام، وبعد أشهر صار بإمكانه أن يطلب الماء بغير اسمه، والذهاب إلى الحمّام، بدون أن تتاح له فرصة الاحتجاج التي كانت تقمعها إشارة البنصر الحادّة على الشفتين.
كبر بصمت. أو على الصمت، وأنّ الكلام أكثر من الإجابة المُحدّدَة بـ نعم أم لا هو قلة أدب. صار له أشقّاء، يجلسون بجانبه كأسنان مشط الشاربين أثناء حصص التربية الصارمة التي يُفضل الأب المزهو أن تكون عقب الغداء الدسم الذي يخلو من أيِّ صوت استحسان أو تذمر من الملح الزائد، فلا صوت سوى احتكاك الملاعق بالأطباق الحديدية. عرفَ مبكراً أنّ السكوت من ذهب خالص، وأن الرجل إذا قُتل فمن بين فكّيه يأتيه الموت، وأنّه حين يضطرّ للحديث فخير الكلام ما قلّ ودلّ. مدّ لسانه أمام المرآة، رآه زائداً، جاء بمقصّ الشاربيْن؛ لكنّه تذكّر أنّ الألم يحتاج إلى صوت.
جلس في المقعد الأمامي في الصفّ الابتدائيّ الأول، وكان أول ما تعلمه من “المِسْ” المكتئبة دائماً “هُسْ”، مع إشارة السبابة بحدّة أشد على الشفتين، وعرفَ أنّ الكلام يحتاج إلى إذن مسبق، ورفع متوتّر لإشارة السبابة باعوجاج. في الإعدادية ارتدى الزيّ الخاكيّ، فاعتقد أنّ ذلك علامة لمرحلة الرجولة، وجاهر بصوته بالغناء في الخمس دقائق بين حصتي صمت، وفي الدقيقة السادسة دخل الأستاذ “أبو غضب”، وذاق مع الخيزرانة “أم علي”، الألم الذي يحتاج إلى صوت، وكلما أراد الاحتجاج ردّه الأستاذ بـ اخرس، و”سكِّر بوزكْ”، وتعرفّ لأول مرة على اسم آخر لفمه وهو “النيع”، القابل للخلع بصفعة تأتي بالصين إلى الشارقة.
خسر الكلام. أو القدرة عليه، وعلى أن ينشئ جملة تفيد بشيء، أو تدلّ على شيء. وأدرك في تقرير سريّ جداً أنه إنسانٌ مقهور، من بلاد قمعستان، وعليه أنْ يزدرد نصف الكلام بعد موجز الأنباء، والكلام الآخر سيجده مدوناً بوزن ثقيل وقافية صارمة في لافتات أحمد مطر أسفل بلاط المكتبات العامة، تخيّلَ نفسه يمشي في مظاهرة، ومشى بالفعل، من سريره إلى باب الشرفة، وهرول إلى الداخل، وحركات شفتيه تشي بهتاف غاضب، وكفه في الهواء قبضة تدق باب الحرية الحمراء، وتأتي شرطة سرية، تقتاده إلى قبو، نزل إليه معصب العينين بثقة تدلّ على أنه يعرف الطريق، وجاء إلى هنا من قبل، عندما حلّ مكان نور الشريف في “الكرنك”.
سأله الأستاذ الجامعيّ عن اسمه. أجاب مقطعاً واحداً، وأضاف الثاني بعد صمت، والثالث بعد سرحان، ولم يجب عن سؤال تعريف الرأي العام، فأملاه عليه المُحاضِر، ووضع ما حفظه في ورقة الامتحان، بدون أن يحرّك شفتيه. وخرج من باب الجامعة الجنوبيّ، إلى وظيفة لم تستدعِ أن يقول أكثر من كلام إنجليزي لعملاء متفهمين. وتزوّج، ذهب وراء أبيه إلى بيت عمه، وصار أباً بكلام قليل وحسبة بسيطة من الأشهر، وكانت حياته تسير بصمت، ولا يضطر إلاّ إلى القليل من الفضّة، ولم يصرخ، ويقذف، وينفعل، ويعترض، ويزبد، ويرعد، ويُكفّر، ويخوّن، ويمنح، ويفوّض إلاّ عندما صار كائناً افتراضياً.