أول نقص ملأته منذ صرت محدث نعمة، أني اشتريت حذاء لكلّ مناسبة، وحذاء لكل نوع من الملابس، ولون، وهكذا حتى صار لديّ خزانة معلقة لم تعد تستوعب ملكيّتي من الأحذية، فاشتريت رفاً بلاستيكياً امتلأ هو الآخر، فصارت المساحة الأرضية التي خلف الباب تكتظّ بالأحذية اللامعة. حين أدخل إلى البيت، أنسى أحياناً (والنسيان آفتي) أنّي صرتُ محدث نعمة، فتباغتني الأحذية المرمية بفوضى. أمشي على أطراف أصابعي، لظنّي أنه في الغرفة المغلقة هناك صلاة جماعة.
عقدة النقص هذه قديمة، منذ كنتُ طفلاً، وسمعنا أن مغنّي ذلك العصر يقيم في الفندق المقابل لمدرستنا، ولما اقتربنا من بلاط الفندق، انسحبتُ خجلاً من حذائي المثقوب في مقدّمته. أو حين ذهبتُ حافياً في الليل للهو قرب الجامع، ولمّا عايرني طفل في الصباح التالي، (وكان المشي في حيّنا من دون حذاء فضيحة)، أخبرته أني كنت أرتدي حذاء أسود، كالليل. هذا لا يعني أني لم أشترِ في طفولتي سوى حذاء واحد، لكني لا أتذكّر غيره.
لم ينقص البؤس في المراهقة، إذ كان لي حذاء واحد (لا أتذكّر غيره) أذهب فيه إلى زيارة عائلية قسريّة، ويحتملني في ساعات التسكع الطويلة من أجل ابتسامة في شوارع الزرقاء الحامية، وهو الحذاء الذي أقذف به زميلاً ثقيل الدم، ويردّه أبي رمياً على ظهري في البيت، أحمله بين يديّ حين أهرب من جارتنا التي لا تغلق شبّاك الحمّام، وأركل فيه الكرة في الوديان الموحلة ليلة التاسع والعشرين من رمضان، والمصادفة وحدها التي تجعل لونه لابقاً على بدلة العيد!
لكني لا أنكر أنه في شبابي صار لي حذاءان (غير ذلك المشترك للدخول إلى الحمّام) واحد مهترئ هو القديم الذي لم يعد صالحاً إلاّ للمشاوير الداخلية، أي في حيّنا أو في الأحياء الترابيّة المتاخمة لمخيّم حطّين، وآخر جديد، ويظل لقبه جديداً مهما تعدّدت المسامير في نعله الخارجي، وطبقات الغِراء لتثبيت مقدمته ومنع أصابعي المحرجة من الخروج. أذهب فيه إلى عمّان، وملعبها الدولي، والجامعة، وشارعها المزدحم بالبنات اللواتي لم يلفت انتباههنّ أن حذائي “جديد”.
بعد سنوات قليلة من العمل، سأصير محدث نعمة، وسيصير لي حذاء من نايكي للمشي الخفيف عصراً على الكورنيش، وآخر من أديداس للرياضة الإجبارية لهضم النعمة في النادي الصحيّ. سأمتلك حذاء أزرق للنهار، وأسود للمواعيد الليلية، وفضيّاً لبدلة العيد الصغير، وبنيّاً محروقاً لبدلة العيد الكبير. سأدللُ قدميّ بأحذية من تومي حتى لويس فيتون، وأدلّل قدميّ كلّ امرأة تصير امرأتي، فاشتري لهنّ أحذية يكفي مجموع أثمانها لتملّك عشرة فدادين قصب في الصعيد.
رغم كلّ هذه الأحذية الملونة على الرفوف، إلاّ أني أشعر بنقص ما. فلا حذاء قديماً لديّ الآن لأقذف به التلفزيون حين يُهزم نادي الوحدات، ولم يعد بإمكاني المكابرة لما أخسر شيئاً ثميناً أن أقول: فداء لحذائي العتيق. لم يعد متاحاً أن أبالغ بتقليل شأن خصم، بوصفه غباراً على حذائي.. فليس لديّ الآن حذاء مغبرّ. فقدتُ أيضاً وسيلة الغضب الوحيدة ضدّ المواقف السياسية المخزية التي لا تستحق أكثر من حذاء مفتوح. فقدتُ حرية التعبير.