ذات صلة

في الستينيّات

ارمِ هاتفك!

على ورق أصفر

اقتلوا الفار قبل أن ينتشر!

سجّل فريقي الأخضر هدفاً كاد يقتلني، وبعد أن خرجت صرخة “جول” من أمعائي، ولما وقفت على قدميّ إثر سقوطي بين الحشود في الدرجة الثانية، اكتشفتُ أن الحكم ألغى الهدف بداعي التسلل. إذاً كنتُ سأفقد حياتي بلا ثمن، فكيف لو كان هذا الثمن مجرّد هدفٍ في شباك خصم لا يستحق الخصومة. قرّرت بعدها أن أكون آخر من يحتفل بالهدف، وذلك بعد أن أتأكد من حكم الراية وهو يركض باتجاه منتصف الملعب برايته المُنكّسة، والوثوق بأن يد الحكم الساحة تشير بلا لبس نحو “السنتر”.

صحيحٌ أنّه بدا أن البثّ المباشر متأخّر عندي بسبب عطل فنّي خارج عن إرادتي، أو أن الإدراك الحسي لديّ عالق في الإجراءات الروتينية لجهازي العصبي، وهكذا فعندما أبدأ الفرح سأكون الوحيد الذي يقفز، وعندما أستقرّ على الأرض لن أجد عناقاً، فالمشجعون استأنفوا متابعة المباراة بأعصاب مشدودة، وأيّ عناق آخر قد يُساء فهمه، فأكتفي بفرح داخلي، قد يفضحه دمع محبوس إذا كان الهدف أغلى من نصف الحياة. كلّ هذا صحيح، وأكثر، لكنه كان ضرورياً حتى لا يفاجئني موت الغفلة!

الآن، وبعد سنوات من اعتماد التحكيم بمساعدة الفيديو عبر التقنية المعروفة اختصاراً بـ “الفار”، لن أكون الوحيد الذي تبدو عليه أعراض الإصابة بالضعف الإدراكي البسيط، فبعد الهدف القاتل، سيتمّ انتظار لحظات أشد قتلاً حتى الإعلان الرسميّ، بعد أن يستمع الحكم عبر سماعة أصبحت جزءاً من اللعبة، إلى كلام غير مسموع من كائنات مجهولة في غرفة الشاشات الخبيثة. ستكتمُ الآهات، ويتريّث الدمع، وتبرد الأحضان، وتصعد الأصابع المتوترة إلى الفم الراجف، ويتأخر قذف صيحة “جول” أو “مش جول” من الطرف الثاني الذي سيطلق الآهات والدمع بعد أن يبرد.

افتقدنا كرة القدم التي عرفناها وأدمنّاها، فقد أصبحت كأنها غرفة تصحيح امتحانات الثانوية العامة، بانتظار حركات يديّ الحكم بعد تحديقه في الشاشة. تحوّلت اللعبة من الانفعال المباشر إلى الوقوف أمام غرفة الولادة. هناك مداولات ومشاورات تتطلبُ منك عزيزي المشاهد خبرة في قراءة الشفاه، وكلّ هذا ليصبح احتمال الخطأ صفراً مربّعاً، ويسود العدل في إمبراطورية الفيفا، وترتاح شقيقة الحكم من الشتائم التي تطاولها ولو كانت في آخر حارة في سان خوسيه. افتقدنا نحن العرب أهمّ مفردة متداولة في الملعب وخارجه: مؤامرة!

في صيف مكسيكو 1986، وعلى ملعب مهول احتشد فيه مائة وخمسة آلاف مشجع، سجّل مارادونا هدفاً بيده (أو بيد الربّ كما قال دييغو في لحظة تجلٍ شعرية بعد المباراة!). كان هدفاً مؤلماً في شباك إنجلترا، أفسد على الإنجليز انتصارهم الهمجيّ في حرب جزر فوكلاند. لم يطلق مارادونا رصاصة واحدة على المملكة المتحدة، لكنّه بالخديعة جعل شعبها يتوارث الألم. صار الهدف حكايات سينمائية، وتضمنته روايات، وألهم فنانين تشكيليين، وكان سبباً لأن أقول في كلّ موقف مشابه: ما أعدل الظلم حين يصيب الظالم.

اقتلوا الفار قبل أن ينتشر، أو أعيدوني إلى الزمن المكسيكي!

نادر رنتيسي
نادر رنتيسي
كاتب له عدة إصدارات قصصية وسردية ويعمل في الصحافة
المادة السابقة
المقالة المقبلة