لا رسائل في بريدي، والإشعار الأحمر المُرقّم مفقود تماماً. لا امرأة تسألني عن آخر أخباري، وليس لي أصلاً أخبار ليكون لها أول وآخر. لا رجل يطلب صداقتي رغم التباين في الانتماء الكرويِّ والموقف السياسي. لا فتاة من مواليد الألفية الثالثة تسألني أن أصف لها طعم الهواء في التسعينيات. بحثتُ في البريد المُهْمَل، فلم أجد حتى رسالة خاطئة، وفي البريد المزعج، لم أجد ولو محاولة ساذجة للاحتيال. لا سيّدة وحيدة من جمهورية أفريقيا الوسطى تستدرجني، ولا فتى آسيوياً يتنمّر عليّ لأنّي لا أحبُّ المزاح.
أمشي في سوق الملابس المستعملة، ولا بائع شملني بالنظر الداعي إلى دخول المحلّ للفرجة والفِصال، ولا عابرة استوقفتني لتخبرني بنصف مَيَلان إن كان القميص الكاروه يليق لي، ولا مُسنّة استدعتني بعكّازها لقياس كنزة اختارتها لابنها الذي طواه الغياب. أدخل محلَّ الأحذية، علّ البائعة تحاول توريطي بشراء حذاء الشامواه الغالي رغم قلة حظه، لكنها تشاغلت بهاتفها إثر رنّة خافتة. أطلتُ التحديق في الأحذية المعلّقة في السقف كأنها ثريات سوداء، حتى تنتهي البائعة من قراءة الرسالة. وفور أن انتهتْ، ذهبتْ نحو حذاء الشامواه وأخفته تحت المكتب، ثمّ تشاغلتْ برنّة أخرى.
على الكورنيش أقضي نصف الليل، ماشياً أو جالساً على الكراسي الخشبية. ولا مرة أفلت طفل كفّه من كفّ أبيه ليطلب مني تفسيراً مقنعاً لتغير لون البحر من الأزرق إلى الأسود، ولا مرّة اعتذرت امرأة عن صدم كتفي بكتفها، ولا طلبتْ استرداد قرطها من جيب سترتي. أجلس أو أمشي لا فرق، فلن يستعطفني بائع الذرة المشويّة شراء آخر كوز، ولن يخيّرني رجل مترنّح بين أن أدلّه على بيته أو أسمح له بالمبيت في بيتي ريثما تنتهي السكرة. حتى الشرطيّ لن يطلب مني إثباتاً شخصياً عندما يرتاب بأمر وحدتي.
في البيت، أرفعُ صوت أمّ كلثوم إلى آخر درجة، حتى أستفزّ الجار الكَنَديّ، لربّما يدفع بابي الموارب بعنف مُبرّرْ، فأطلب منه الهدوء وشرب الكركديه البارد، وأحكي له عن الحبّ وسيرته. وفي البيت أيضاً، أراقبُ من عين الباب، حركة أمام بيت الجارة العربية، يبدو أن لديها سهرة شيقة للعب ورق الشدة، أعود إلى الكنبة، أجلسُ بوضعية استعداد، لربّما تطرق بابي، راجية أن آتي إنقاذاً للموقف، وأكون الرابع في لعبة الطرنيب. أنتظر طرق الباب، أو دفعه بعنف مُبرّر؛ أنتظر وأمّ كلثوم تغنّي من “ألف ليلة وليلة”.
لا هاتفي يرنُّ، ولا حصاة تضرب نافذتي. أعيش منذ وقت لا أذكره في وحدة جبرية، حاولتُ تفسيرها بأني ربما كنتُ مصاباً بالتهاب السحايا، لكني فنّدتُ الاحتمال سريعاً، فليس من المعقول أن تخشى الناس العدوى من خلال مهاتفتي أو مراسلتي. بالغتُ في ضرب الاحتمالات، فقلتُ ربما كنتُ ميّتاً، والناس لا تراني كما شاهدتُ ذلك في فيلم أميركي، لكنّ الضرائب التي أدفعها بدّدت هذا الاحتمال السخيف. وقبل أن أعجز، حسمتُ بأنّ الأمر عائد إلى سمعة سيئة انتشرت عني مثل “الهشيم في النار” (قلتُها خاطئة متعمّداً علّ أحداً يصحّحني)!