في العراق، شاعر شعبيّ اسمه كاظم السعدي، وُجد أخيراً في دار للمسنّين. كُتِب في التقارير الصحافية أن الدار بائسة، ومتواضعة الخدمات، وأن الشاعر الذي في منتصف السبعين لا يجد الرعاية اللائقة. بُثت تقارير مصوّرة من الدار عن حال “كاظم” التي لا تسرُّ إلاّ العِدا، وانتشرت له صورة، النظر إليها لعدة ثوان فقط، يسبّبُ ستة أنواع من الكآبة. ثمّ تقرأ أن أوفياء تداعوا لتخصيص راتب شهري، وأن رئيس إقيلم كردستان دعاه للإقامة في أربيل، وهو ما حدث.. لكن بقيت الصورة والكآبة.
كتب كاظم السعدي أغنيات لنجوم الصفّ الأول في الغناء العربيّ، كثيرٌ منها حققّ نجاحات مدوّية، فتبثّها الإذاعات والفضائيات منذ أربعين عاماً، ويطلبها باستمرار المستمعون والمشاهدون إذا احتاروا في أمر الحبّ، أو عجزوا عن تعريف الفَقْد. يصعبُ عدّها، ويتعذّر حتى إطلاق رقم تقريبيّ للأغنيات التي كتبَها كاظم السعدي بالعراقيّة والألم. ولو اخترنا عشر أغنيات فقط، من كلمات كاظم السعدي، وافترضنا أنه تقاضى عشرة دولارات (فقط لا غيربالصيغة البنكية) من كلّ إذاعة وفضائية حين تعيد بثها، لما كانت تلك الصورة، ولا كآبتها.
لستُ صاحب هذا الافتراض، فهو كان اقتراحاً في السبعينيات من القرن الماضي، لكُتّابٍ وملحّنين، تمّ إرساله إلى وزارة الإعلام المصرية، يقضي بأن يتقاضى الشعراء والملحّنون مبالغ رمزية عن كلّ إعادة بث لأغنياتهم، طالما أنها مسموعة ويطلبها باستمرار المستمعون والمشاهدون، خصوصاً أن بيع الشِعر أو اللحن يكون بسعر “محزن” مقابل ما يجنيه المطرب من غناء الأغنية في الأسطوانات أو الحفلات. وكان الاقتراحُ مسبَّباً أيضاً، بأن الأغنية تعيش زمناً طويلاً، ويستفيد من نجاحها مطربون آخرون غير مطربها الأصليّ، بإعادة غنائها.. ولو طبّق هذا الاقتراح، تخيّلْ كم تكون الآن ثروة “جانا الهوى”!
وتخيّل أيضاً لو طبّق الاقتراح على أغاني الرحابنة الصباحيّة، لكان الشِعرُ والتأليف الموسيقي أجدى من التنقيب عن النفط!
لم يكن همّ الشعراء والملحّنين المصريين، تكوين ثروات من وراء الاقتراح، بل كانوا يشاهدون ما وراء الأوتار، ويحدسون مثل الشِعر كيف سيكون شكل دار المُسنّين. وهُنا تخيّل إحساس شاعر أو ملحّن يستمع في شيخوخته إلى أغنية من صُنعه على الإذاعات والفضائيات التي تتكاثر مثل “الشَعر” غير المرغوب. وتخيّل أيضاً أنه كان قد تنازل عن الأغنية للمطرب مقابل ألف جنيه مصري أو مائة ألف ليرة لبنانية أو خمسمائة دينار عراقي بأسعار السبعينيات والثمانينيات، ثمّ تخيّل أيضاً أن تكون لك أرض في منطقة سياحية.. لكن محجوز عليها!
ولكاظم السعدي دَيْن في رقبتي. تخيّل أنه كتب عشرين أغنية لكاظم الساهر، كلها أحبّها، وأكرر الاستماع إليها منذ ثلاثين عاماً، إلا واحدة، هِمتُ فيها، ومن “النادر” أن يمرّ يومان من دون أن أستمع إليها. أسميها أغنية “الكواظم” فكاتب كلماتها كاظم السعدي، وكاتب موّالها كاظم الكاطع، وملحّنها ومغنيها كاظم الساهر (قبل أن يُعرف في الإذاعات والفضائيات بالقيصر!). كلما غنّى المُغني “شحلو طولك”، اغرورقت عيناي بماء شطّ العرب. تخيّل إذاً كم حجم دَيْن كاظم السعدي في رقبتي، كلما عجزتُ عن وصف الفَقْد، فأسعَفَني: “أنا بليّاكْ حتى المايْ مَرْمَرْ”.