كان أول مرسى له بعد عبور الشطّ في العام الأخير من الثمانينيات، في فندق من أربع نجمات بمنطقة تجاريّة مزدحمة في الكويت، اسمها غير قابل للتلحين: الفروانيّة. استعار بدلة سوداء، وجرح ذقنه بشفرة مستعملة، وصعد إلى مسرح سينما الأندلس، هناك غنّى مواويل بـ العراقيّة القديمة للشيوعيّ كاظم الكاطع. في العام التالي، وفي أشهر قبل الغزو، عاد بقميص نصف كُمّ، وصوّر أغنيات كئيبة على الواجهة البحريّة، بمصاحبة فتيات يعانين من سوء التغذية. أصدر بإنتاج كويتي ألبومه القويّ “يالعزيز”، وهي أيضاً أغنية صوّرها على ظهر سفينة.. منذ ثلاثين عاماً لم تستقرّ عند ميناء.
انتهت الحرب. بدأ الحصار، وعبَرَ “كاظم القديم” إلى عمّان، حيث لا بحر، ولا سفن. كان جمهوره من الذكور الذين يشكون غدر النساء، أو سفرهنّ بعد وعود، ولغة أغانيه خشنة، كتبها شعراء أسماؤهم عراقية صراحة أو إشارة. الرجال والمراهقون علقوا صوره على الجدران والخزائن، وأغانيه كانت في باصات النقل العام تطيل الطرق وعذاباتها. شاع أول لقبٍ له، وكان مرتبطاً بالسحر، وتفسير ذلك أن جمهوره كان مدمناً على سماعه، رغم أنه ليس من “أعتى” الأصوات. في نهاية العام الثاني من التسعينيات، ذهب إلى بيروت لإحياء رأس السنة.. وكانت السفينة راسية في ميناء جبيل.
قصّ شعره بطريقة المارينز، وارتدى الألوان الحارة بلا تناسق، حتى بدا أنّه قد وقع في سلّة التين. لكنّه إلى الآن، أي في منتصف التسعينيات، ما يزال “كاظم القديم”، فله مواويل يمكن أنْ تكسر ضلعاً في القلب، وأغنيات بطعم شاي أبو الهيل، كتبها “كريم” وهو الشاعر الذي أصبح مقرباً منه وكان ما يزال “عراقياً”. خرج كاظم من بحر بيروت، إلى ميناء القاهرة الجوّي، مرّ بباريس وتوقّف في لندن، حتى أنه عبَر إلى سمرقند، وهبط على شواطئ الخليج العربيّ التي كان ممنوعاً من عبورها. فُتحتْ أمامه كلّ أبواب المطارات، وانخفضت له كلّ أرصفة الموانئ.. إلاّ أوّلها.
التقى نزار قبانّي في لندن. استأذن منه غناء “بعض” القصائد. كانت بداية جديدة مدوّية، فبعد “ليلى” القصيدة اليتيمة لحسن المرواني، لم يعد هناك حيّ مغربيّ أو بحرينيّ إلاّ امتدّت إليه آهات كاظم الذي أصبح بعد مرسوم نزاريٍّ مُلزِم يُلقّب بـ “قيصر الغناء العربي”. قصائد كثيرة في ألبومات سنويّة، تبدأ أو تنتهي بالنداء “يا سيّدتي”، فدخلت سيّدات كثيرات إلى جمهور “كاظم الجديد” الذي أنشأ غرفة حديد في بيته الباريسيّ، وصار له جسد نصف فنّان، ونصف رياضيّ. أما “كاظم القديم”، فقد ضاع أثره، وهو يرتدي قميصاً مقلّماً، نصف كُمِّ، معروقاً أسفل الإبط، تحت شمس ظهيرة في حصار شطّ العرب.
يغنّي “كاظم الجديد” لنساء في منتصف الأربعين كلاماً ناعماً، لا عتاب ولا هجر، ولا ماء نار ينزل على الخدّ. سيّدات أخريات انضممن إلى جمهور الفنان الذي ذهبت من أجله امرأة مصرية قبل زمن إلى المحكمة تطلب الخلع لأنّ زوجها لا يقول لها كلاماً يشبه كلام “كاظم الجديد”. أمّا أنا، فقد سبّب لي “كاظم القديم” كآبة مزمنة، إذ أوهمني عندما كنت فتى في التسعينيات أنّ قطار الهوى قد فاتني، وحرّضني على المشي على حدّ الحزن. صرتُ كهلاً والشيب الذي كان من المفترض أن ينمو في رأسه، اشتعل في رأسي.