عند السادسة والنصف صباحاً، أصحو لأنّ صوت المنبّه يعرف مصحلتي أكثر منّي، فأحاول العودة لاستكمال المنام، لكن نوبة أخرى من الرنين المزعج تسحبُ غراء النوم من عينيّ. تغلي القهوة التركيّة في الركوة النحاسية، وتصعد النّار إلى سيجارتي التي في فمي المرتخي، أسعلُ وأزيدُ السُّعال لأطمئنّ أنّ صوتي لم يذهب مع الهواء المُبَرّد. أشاهد فيديو مقترحاً من صديق لفتاة ريفية تغنّي “عتابا” تُتْعبُ القلب، ثمّ أقرأ على هاتفي أخباراً عن بلادي التي يفصلني عنها أكثر من ميناء.
“بْلادي” أسمعها عند السابعة صباحاً بصوت السيّدة فيروز، ترجو “الهوى” أن يأخذها إليها. جاء الغناء من الشقة المجاورة التي سكنها بالأمس سكان جدد. الشقة ليست مجاورة فقط، بل إنّ الغرفة التي أسكنها تبدو كأنّها مقتطعة منها، فغسيلُ الصحون، والمكنسة الكهربائية، والشجار الزوجيّ، وبكاء الطفل الذي في فترة التسنين، أصوات أسمعها بتذمّر كأنّي الابن الأوسط الذي تنازل عن الاستقلال التام ورضي بالحكم الذاتي المحدود. تكرّرت الأغنية: “نسّم علينا الهوى”، واستمرّ التكرار، ما إن ينتهي الغناء، حتى يبدأ العزفُ المؤثر على البزق، ويُرعشني نسيم.
يبدو أنّها عائلة من بلد شاميّ، وأنّ أفرادها القليلين وفدوا حديثاً هنا، إلى الغربة الحارّة، ويبدو أيضاً أنّ الحنين بدأ لديهم مزمناً، ويُفزعهم أن يكبروا بعيداً عن بلادهم، فلا تعرفهم، هذا ما تكهنتُ به والأغنية تدورُ مثل مروحة السقف في بيت ريفي منسيّ. عند السادسة والنصف من الصباح التالي، والصباحات التالية، صحوتُ، خشيتُ من تأنيب المنبّه، فلم أعد إلى النوم، غلتْ القهوة، واشتعلتْ السيجارة، وشاهدتُ فيديو مقترحاً، وقرأتُ أخباراً، حتى تصاعد نقر البُزقْ.. بعد صباحات أخرى، اختفى الصوت، وقدّرتُ أنّ العائلة اختارت بيتاً قريباً من “مفرق الوادي”.
سكنتْ في الشقة عائلة من بلد مغربي، لكنّ نقر البزق وصوت فيروز اختفيا في السابعة صباحاً، وانتهى طقسي الصباحيّ عند قراءة الأخبار. بعد وقت قصير، غادرت العائلة المغربية، ثمّ جاءت أخرى يمنية أعادت مفتاحها للمالك قبل أن يملأ أثاثها زوايا الشقة.
جاءت عائلات مختلفة من مصر، والسودان، والعراق، وتناوب عليها سكّان عديدون من آسيان، قبل أن تُكمل العائلة شهراً، تأتي سيارة شحن متوسطة تحمل الأثاث، ثمّ تأتي أخرى تفرغ أثاثاً آخر، حتى بارَ سوق الشقة، ولم يسكنها أحد، وسمعتُ من جارة بعد أنْ بسْملتْ، وتعوّذتْ، أنّها قد تكونُ مسكونة بالجنّ.. وسألتها ساخراً إن كانوا يدفعون الأجرة نفسها! صحوتُ عند السادسة والنصف من صباح هذا اليوم، لم أغفل أيّ طقس من الطقوس المعتادة، وعند السابعة، قرّرت أن أدخل الشقة التي تُرك بابها موارباً ربّما لاستمالة ساكنين جدد في غياب البوّاب. دخلتُ بحذر دخول مغارة مذكورة في الخرافات والأساطير. فزعتُ، واختنقتْ عيناي، فقد وجدتُ كلمات “نسّم علينا الهوى” مكتوبة على جدران الشقة بالعربية، والانجليزية وباللغات من الفارسية، والنيبالية والبهارية، حتى الأبخازية. هرولتُ كالممسوس إلى الشارع، مشيتُ حافياً، حجبَ الدمع عني الرؤية، لكني لم أخطئ طريق الميناء.