“أنتَ مصابٌ بالحنين، والحنينُ، يا ولدي، مرض كثير الأذى، كالنسيان”. قال لي الطبيب الهرم، عندما ذهبتُ إليه شاكياً رغبة دائمة بالبكاء. سألني بقلق “وما درجة هذا البكاء”؟ فأجبتُ بوجه على وشك البكاء: “مثل جريان النهر يا حكيم”. لكن دمعة واحدة لم تنزل لتؤكد إصابتي بالحنين.
بقي الطبيب مصراً على إصابتي بحنين مزمن، وقال في صبر: “أول علامات الشيخوخة أن يعيد الإنسان رواية الحكاية مرة، ومرتين، وثلاثاً..”، ونظر إليّ “وأول علامات الحنين أن يستمع إنسان آخر إلى الحكاية نفسها، مرة، ومرتين، وثلاثاً”.
ورويتُ الحكاية كثيراً، واستمعَ إليها كثيراً.
أحنّ إلى أبي. كان يبدو قاسياً، وله هيبة عسكري على بُعد رتبة من التقاعد، لكنه تقاعد مبكراً. والحنين، يا حكيم، وجع الإبرة، عندما كانت أمي الصبية تخيط الزرّ الأعلى، المقطوع دوماً، في قميصي الذي شدّني منه أبي ليمنعني من السفر. وسافر أحدنا، وأحنّ الآن إلى الوجع.
أحنّ إلى أمّي. ليس إلى خبزها. أحنّ إلى صحوها عند الفجر لتتأكد أنّي لم أسافر وراء أبي، وأحنّ إلى نومي العميق لأطمئنها أنّي ما زلتُ أحبّ أبي، وأحبّ الحياة أكثر. ونمتُ أكثر، لكن الحنين، يا حكيم، صحو الذاكرة في الثانية صباحاً، كطفل رضيع يفرض وقته الخاص للبكاء.
أحنّ إليّ، إلى اسمي حين كان من أبي، وأمّي، وإلى الأشياء قبل أنْ تصبح لها أسماء: أغنية لا أذكرها توقفت الإذاعات عن إذاعتها، وفيلم سينمائي صار ممنوعاً من العرض، وقصيدة قرأتها لحبيبتي الأولى، وحبّ قليل، ومباراة بكرة القدم خسرها فريقي المفضل بسبعة أهداف، ومظاهرة إلى “السفارة العدوة” طلباً لحرب جديدة. وأحنّ الآن، يا حكيم، إلى الحرب التي انتهت بانتصار الطرفين، وإلى السلام الذي خجل الطرفان من تبنّيه.
أحنّ إلى الفتى. كنتُ عاشقاً كئيباً أحبّ فتاة لا تحبّني، وكان هذا النمط من الحبّ إلزامياً ضمن مقرّرات الجامعة في السنة الأولى. أغمض العينين، في ياء الحنين، على أول صورة لنا، على مقعد حجري يدوّن عليه عشاق الآن ذكريات لم تحصل. الحنينُ، يا حكيم، نزيفُ الذكريات، عندما تصادفُ امرأة حبّك الأول، بمعيّة حبّها الثاني، وبينهما ولد ليس له من اسمكَ نصيب.
أحنّ إلى صورتي قبل التعب: كنتُ وسيماً مثل وحيد أمّه، وهادئاً مثل فتى أرستقراطي من هواياته لعبة الشطرنج، ورومانسياً مثل طالب مبتعث إلى لندن لدراسة العشق، وطيّباً مثل زوج يخونُ كلّ النساء مع زوجته؛ والحنينُ أيضاً، يا حكيم، أن أحنّ إلى الذي لم أكنه.
وبي حنين المُغنّي إلى المَغْنى، إلى الشعر الحُرّ، وإلى الآراء العاطفية في سيرة “بدر شاكر السياب”، والإعجاب بنرجسيّة “محمود درويش”، إلى الجدل الذي لا يُحسم حول قيمة “نجيب محفوظ”، إلى الرواية التي قرأها كلّ من يعرف القراءة: “موسم الهجرة إلى الشمال”، وهاجروا جميعاً، إلى كلّ الجهات، وأحنّ الآن، يا حكيم، إلى الذين غابوا، أو غُيِّبوا، أو تغيّبوا؛ أو عقدوا، من دوني، صفقة مع الغياب.
أحنّ إلى البلد، إلى البلاد، إلى الشام، إلى الذي لم يبقَ من الشام، ولأقول لامرأة هناك: “أنا لا أحنّ إليكِ، إنّما اتجاه طريقي نحو الوراء”. والحنين يا حبيبتي رنين، وصوتكِ يرنّ الآن بين جدران القلبِ الفارغ، الفارغ تماماً مثل غرفة تناوب كلّ سكانها على واحدة من طرق الرحيل.
.. والحنينُ، يا حكيم، أنْ تكون عراقياً، أو فلسطينياً؛ ومصاباً بحبّ الشام.
و”الحنين، يا ولدي، مشيُ النّهر إلى الوراء”.