التقيتُ ضياء الجنيدي لأول مرة في إربد. والتقيته آخر مرة في إربد. اللقاء الأول لا أذكره أبداً، لكنه كان في بداية الموسم الدراسيّ في جامعة اليرموك للعام ألفين واثنين. كنتُ طالباً في السنة الثالثة، وكان هو في السنة الأولى قادماً من الخليل. إذاً كنتُ أكبره بأربع سنوات، بحكم تأخري سنتين قديمتين. اللقاء الثاني لا أذكره أيضاً، لكنه بالتأكيد كان في الفصل الأول، وعلى درج قسم الصحافة والإعلام. ربّما نفَرَ من “أستاذية” استقبلته فيها، وربّما لم أتوقع مصافحته مرة أخرى. ربّما، لكن غرفته العالية المطلة على شارع الجامعة صارت بيتي الأول.
أدلّه على الطعام اليمنيّ في المطعم الصديق للطلبة، فيدلّني على مطعم صغير لسيدة تعد طعاماً بـ “بركة” البيت. أحكي له عن كتاب سيصدرُ لي، فيقترح أن يعلّمني التدخين. وبين سيجارتين، يمازحني، ونحن نراقب من شرفته مجرى الحُبّ في شارع الجامعة، أنّ أمه لو تعرف أنه يستضيف فلاحاً في غرفته، لن تسمح له بالعودة إلى الخليل. قلتُ له: “اتفقنا، ابقَ هُنا، فلو تزوّجتَ الفتاة الجنوبية اللبنانية التي تحبّها من بعيد، لن تستطيع العودة معها إلى الخليل”، فطلب منّي جرعة أخرى من أغنية “عيناكِ”.. كسرَنا صوت خالد الشيخ، ولولا العتمة لشاهدنا دمعنا.
لا أذكر آخر مرة التقيتُ فيها ضياء الجنيدي، لكنها بالتأكيد كانت في نهايات العام البغيض ألفين وثلاثة، فقد أنهيتُ الجامعة، وصار لقاؤنا متباعداً مرة في عمّان، ومرات في إربد، حتى انقطعت فرص اللقاء تماماً مع عودته إلى فلسطين، ولم أتوقع مصافحته مرة أخرى. سافرتُ إلى الخليج، واستقرّ هو في الخليل. رسائل قليلة، وأسئلة عن الأحوال من الأصدقاء المشتركين. توقّعتُ أنه تزوّج فتاة خليلية، وأنجب قمراً أو اثنين. وعرفتُ أنه عمل مراسلاً لتلفزيون فلسطين، وأعدّ تقارير مصورة عن هجمات قطعان المستوطنين. اطمأنيت عليه، وكان هذا واجبي، فقد كنتُ أكبره في العمر والهمّ.
في يوم من شتاء الخليج الدافئ، في الشهر الأول من العام ألفين وثلاثة عشر، جاءني نبأ وفاة ضياء الجنيدي بسكتة قلبية، فزاد عمري وهمّي. ندمتُ على كلّ تلك السنوات التي ذهبت من دون أن أبادر بزيارته، أو مهاتفته (رغم أني الأكبر). كنتُ أظنُّ أن اللقاء سيحدث لأن ضياء صغير، وأنا لا أكبره سوى بأربع سنوات وقليل من الحزن. اعتقدتُ أن الشَعر الأسود سيمهلنا حتى نلتقي في مقهى أو منفى، وأخبره عن كتاب سيصدر لي، فيقترح أن يعلمني التدخين، ويطلب مني جرعة أخرى من أغنية “عيناكِ”، فأخشى على قلبه.
بعد سنوات، وقبل أيام فقط، عرفتُ أن آخر ما كتبه ضياء الجنيدي على صفحته الزرقاء كان عبارة اقتبسها منّي، وهي “أعشق عاماً وأموتُ عاماً”. إذاً لقد كنتُ في باله وقلبه قبل وفاته المباغتة، فلو هاتفني لربّما تحدثنا عن معنى الوفاة الطبيعية في فلسطين، وأن أكثر ما يغيظ “إسرائيل” أن لا نموت برصاصها وحصارها، بل بجرعة زائدة من أغنية “عيناكِ”، و(.. رغم أنه الأصغر) فقد بادر ضياء الجنيدي لاقتسام العبارة معي، فأخذ هو أعوام الموت وأعطاني البقيّة من عمره.. أعوام العشق.