مرّ وقت طويل على آخر عاصفة رملية حول قبر محمود درويش، هناك في نومه الطويل في ضاحية هادئة غرب رام الله. لا “عدو” بمسمّى صديق قديم ينبش في دفتر هواتف الشاعر الراحل بحثاً عن فضيحة ناقصة ركناً لا شابّة “جديدة” في الخامسة والعشرين، تزعم أن درويشاً قد سكن ليلة مكتملة مع أمها في جذع السنديان. لم يحدث أيضاً، أن خرج نصف موهبة، ليدّعي أن محموداً قد غافله وسرق منه نصف ديوان “الفراشة” قبل أن يصبح لها أثر!
لم يخرج، بعد، ناقد من الصحف المهجورة ليدّعي أن درويشاً حاربه بقطع العنق والرزق، بسبب رأيه غير المقروء في “الظلّ العالي”، كما يبدو أنه قد تأخرت كثيراً الإطلالة الموسمية لكاتبة في النقد والحقد، تكرّس نصف حياتها القصيرة لتأكيد “سطو” محمود درويش على أفكار نيتشة. وهناك غياب مقلق للشاعرة التي تواظب على نشر رسائلها التي “من تحت الماء” مع الكُتّاب الراحلين، ولا يخفى أن زوجة سابقة، قد فاتها الموعد الدوريّ لرواية تفاصيل “استجدّت” على زواجهما الذي كان أقصر من الحبّ.
غياب جماعيّ، غير مفهوم ويدعو للريبة، لأولئك الذين وثّقوا صداقتهم بمحمود درويش، بعد رحيله في صور سيئة التركيب. بعض هؤلاء كان الراحل لا ينام قبل أن يهاتفهم في الواحدة صباحاً طلباً لما يُبدّد أرقه وقلقه الوجوديّ، وبعضهم كان لديهم تأكيدات غير موثوقة بأنهم “الوحيدون” الذين كان درويش يضحك على نكاتهم حتى يظهر ضرسه المحشوّ. أكثر هؤلاء كانوا يشيعون أنهم يعرفون طقوس “محمود”، وتفاصيل حياته بعقودها السبعة.. نعم كانوا يعرفون أكثر مما كانت تعرف المذيعة التي سألت درويشاً كيف يقضي وقته مع أولاده!
محمود في “بهجة النسيان العليا” نائم. ربّما وصلته أنباء عن غدر صديق، واستمع بأذن واحدة لنميمة أشباه الأعداء، وربّما رحّب بكف باسمة بالأصدقاء الذين تكاثروا بعد وفاته. لم يغضب درويش في نومه من كلّ هذا (وهنا لا أزعم صداقته ومعرفة طباعه!) إنما لأنّ لديه هناك على تلة الربوة الكثير من الوقت وبكل الألوان، وبانتظار أن يأتيه من أرض بلقيس هدهد، لا بأس بقليل من الضحك على دراسة جامعية تكفّره، وصحفي متقاعد يخوّنه، وباحث يتهمه بالاستلاب، ومختل يشير إلى “ضلوعه” بجريمة اغتيال ناجي العلي.. وربما مسؤوليته غير المباشرة عن اضطراب الربيع العربي.
لا عواصف رملية حول قبر محمود درويش، لكنه بالتأكيد الهدوء الذي يسبقها. ربما انشغال العالم بـ”عصبية” روسيا، وانكفاء أميركا، وهوان أوروبا. ربّما التريندات الفاقعة، والسلالات المتحورة، وسلاسل الفنان محدث النعمة. ربما ثمّ ألف ربّما، لكن بعد وقت ما سيظهر باحث غير فطين، وصحفي ينظر فوق السُّلّم، وامرأة فقدت كلّ مشمشها، ومختل لديه حيثيات استجدت.. كلهم سيعاودون الدوران حول متر وخمسة وسبعين سنتمتراً، ومساحة حُرة لـ “زهر فوضوي اللون” وضعه حول قبر درويش.. أصدقاء ومحبّون وأعداء.