في هذا الزمن المائع، الذي يمكن للزيت فيه أن ينجذب للماء، وللسمك واللبن والتمر هندي أن تجتمع في وجبة العشاء، صار همّي اليومي أن أتفادى “الترند”، وأن أحاول النجاة برأسي من الأخبار التي تتزاحم مثل سرب ذباب على بقعة عسل فاسد. حاولتُ كثيراً أن أنشغل بالذي لا ينشغل به الآخرون، وأتوهّم أني الرقم الفرديّ بعد المائة، لكنّي اكتشفتُ أن هذا غير متاح إلا إذا أغلقتُ هاتفي حتى السواد، ورميته مثل الجثة المغدورة في حوض السمك.
.. فإن ذهبتُ إلى مواقع تكتب بالعربيّة وتحمل ماركات إعلامية بريطانية وأميركية وفرنسية عريقة و”محترمة”، ستكتشف أنها منشغلة بالأسباب التي دفعت مغنية مصرية أن تقصّ شعرها على درجة واحد ونصف، وإن عدتُ في الأسبوع التالي ظناً منّي أن شَعر المغنية قد طال، ولا بدّ أن قضية أكثر أهمية تحتل صدارة الترند، تعثّرتُ بصور رجل مختل، ناقص عقل ودين، يدّعي النبوّة، ويتمّ تناقل “هبله” من موقع “عريق” إلى موقع “محترم”، وأخذه على محمل الجدّ عبر الردّ عليه بأن زمن النبوة قد انتهى!
كلّ صباح هناك قصة سخيفة مفروضة على أذنيّ وعينيّ وفتحتي أنفي، كلما دخلتُ موقعاً بغرض التواصل الاجتماعيّ، ولا بدّ أن أتخذ منها موقفاً بالتعاطف أو التنمّر، فلا حياد مقبولاً في هذا الفضاء الضيّق، ولا مجال للاستنكاف أو الاعتكاف، حتى الإجازة المرضيّة ممنوعة، وهكذا فأنا ملزمٌ بتأييد أو رفض الحملة التي تطالب أحمد حلمي بالانفصال الفوريّ وغير المشروط عن منى زكي، ولا بدّ لي أن أصدر فتوى عاجلة في شأن جواز أو عدم جواز حلق اللاعب المصري الشهير شَعر صدره.
لم يعد أحد في هذا الزمن المائع يتحدث عن “الصعود إلى القمة”، السؤال المُلحُّ اليوم كيف تصعد إلى رأس الترند، ثم تبقى ثلاثة أيام بلياليها على حبال الغسيل العربيّة. ومن أجل هذا تشاهد الناس على البث المباشر مثل قرود الضحك، مستعدة لأن تخلع عقلها مثل المعطف الزائد، فكلّ ردود فعلهم مبالغ فيها، والبكاء يجب أن يستنزف كل المخزون الاحتياطيّ من الدمع، ولا بدّ من انفعال حاد يمكن اقتطاعه ليصبح اللقطة الأكثر مشاهدة، والقابلة لإعادة التدوير على يوتيوب. المهمّ أن تكون مستعداً لأن تخلع كرامتك. لا تخف الأمر ليس مؤلماً، يشبه إلى حدّ كبير تحريك شاشة الهاتف.. باللّمس!
أستعيد هاتفي من حوض السمك، وأعيد إليه الألوان الزرقاء والحمراء والخضراء، وباللمس أمرّ على الترند، وباللمس أيضاً أقيس درجة سخفاته، أحاول الاستنكاف عن إبداء الرأي في العضلة الجديدة في صدر عمرو دياب، بقراءة سياسية تبشّر بعودة زمن الحرب الباردة، لكني أصطدم في منتصف المقالة بـ”لينك” يدعوني لمعرفة سعر قضاء ساعة واحدة برفقة فيفي عبده، لالتقاط الصور معها، وسؤالها عن كلّ ما يخطر ببالي. ماذا سأسأل فيفي عبده لو التقيتها.. ماذا؟!