في عُمْر السادسة والثلاثين، وقف الممثل الاسكندرانيّ لأول مرة أمام الكاميرا المتحركة واثقاً من موهبته، ولا شيء آخر. كان هذا في دور الطبيب النفسيّ في فيلم “العار”، وكان الزمان 1982. قبل ذلك بعشرة أعوام، كان فقط ممثلاً أشقر وسيماً، يُقحَم في حكايات شديدة الخفّة أو زائدة الكآبة مع فنانات السبعينيات الشقراوات. وفي التاسعة والثلاثين سيكون “جمال أبو العزم” الشاب المزاجيّ المرح في الفيلم الخالد “الكيف”، وأيضاً الجاسوس المزدوج قبل إعدامه ميّتاً، و”عبد القوي” في جريه السريع مع الوحوش فاقداً للعقل، وهي كلها مصائر اختارَها له المخرج علي عبد الخالق، ليُعيدَ خلق اسم الشاب الأشقر: محمود عبد العزيز.
لو أنّ الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك لم يلتق بمحمود عبد العزيز معتمراً حزيناً في السعودية، يشكو سرقة دور “رأفت الهجّان” منه، وتابع تشكيل اسمه في السينما كما ينطقه علي عبد الخالق، لتوفي بعد تسعة وعشرين عاماً، في الثاني عشر من تشرين الثاني 2016، ناقصاً عُمْراً فنياً، وانقطع نصف اسمه من الدنيا، لهذا أرسل وساطات لحوحة لـ عادل إمام، حتى يتنازل له عن دور “الجاسوس الأشقر”. و”إمام” حنطي، وليس وسيماً سوى بعيون “يسرا”، وفوق ذلك اشترط أن تكون بداية المسلسل على طريقة أفلامه، مشبوهاً في قسم البوليس، يحكُّ أرنبة أنفه، ويُخرجُ محفظته من جيبه الخلفي، فيما الضابط يقلّب محتاراً الهويّات العديدة بحوزته، ويصفعه، فيردُّ بحركاته الاستعراضية الشهيرة.. تلك التي يبتكرها خارج السيناريو.
سافر محمود عبد العزيز مهموماً إلى العُمْرة، كما تقول الروايات المُتّفق عليها، والتقى مبارك، واشتكى “إمام”، ولما عاد إلى القاهرة جلس ينتظر المكالمة التي يخشاها أيّ مواطن عربي، ويعيش ثلثي عمره محاولاً تجنّبها: اتصالٌ ليليّ من المخابرات! جاءه أخيراً، وكلّفه الصوت الغامض بحَمْل الأسماء اليهوديّة الآتية: ليفي كوهين، ياكوف بنيامين حنانيا، وديفيد شارل سمحون. وجاء شهر رمضان حاراً في العام الدراميّ المميّز 1987، على رجل ذهبيٍّ وسيم، يُدخّن بشراهة، وهو يكتب رسالة سرية أو يفكّ شيفرة أخرى واردة، يفتنُ النساء اليهوديّات، ويسمعُ اسم مصر فيخشى نطقه، يبكي جمال عبد الناصر في وحدته، ويمشي بغرفته بمحاذاة خطاب نصر أكتوبر، بالصوت القرويّ لأنور السادات، ويضحك.
في الخامسة والأربعين، في بداية أخرى، وأخيرة، كان الزمان 1991. عادل إمام، مرة ثانية ومفارقة غريبة، ففي هذه الرواية، غير المتفق عليها، يزهدُ إمام بدور “الشيخ حسني”، ذلك الضرير الفكاهيّ، الذي يعتقد أنه يرى أفضل من المبصرين في النور والظلمة، هو “المزاجاتي” في فيلم “الكيت كات”، فيدخل المخرج داود عبد السيِّد إلى استديو مجاور، يقدّم السيناريو لـ محمود عبد العزيز. وبعد خمسة وعشرين عاماً، وفي مساء كئيب من الثاني عشر من تشرين الثاني 2016، سيُعلنُ في القناة الأولى عن وفاة الممثل الأشقر بعد صراع غير متكافئ مع المرض، وسيحمله على كتفيه رجلٌ ضريرٌ، ويمشي في صفّ أخير من جنازته جاسوسٌ وسيمٌ بنظّارات سوداء.