تقول الحكاية إنّ امرأة كانت تجلس أمام قبر زوجها الذي طالما منحها كلّ شيء، عندما جاءها مندوب غامض، من جهة أشدّ غموضاً، ليبدأ معها مفاوضات شاقّة، فقد أخبرته الجهة التي أرسلته أنّ هذه المرأة معجزة من معجزات الإخلاص، فرغم أن زوجها مات قبل ثلاثة وعشرين عاماً، إلا أنها رفضت أن يمسّها رجل بعده، حتى لا تقلق منامه. تساءل المندوب الغامض في يأس: كيف يمكن إذاً أن توافق هذه المرأة على بيع قبر زوجها؟!
وكيف، تساءَل المندوب في إحباط، ستوافق المرأة التي لو أعيدت تسميتها من جديد، لناداها الناس “وفاء”، على نقل رفات زوجها إلى مكانٍ ما، بعيداً عن عينها، وأن تتركَ مكانه الذي قدّسته بالصلوات والورود الطاهرة، ليصبح مكاناً لكلّ رجال الأرض الذين يريدون زيارة جارة زوجها في الحياة الأخيرة، مارلين مونرو. أراد المندوب الغامض أن يتوقّف في منتصف الطريق العبثيّ، فكنوز الأرض كلُّها لن تجعلها تتخلَّى عن زوجها ميّتاً، كما لم تتخلّ عنه حياً، هذا ما كانت ستقوله له، بمعنى أو بآخر، الأرملة ألسي.
وتقول الحكاية إنّه عندما كان زوجها حياً، كان كثير السفر وراء أعمال شاقة تدرّ مالاً كثيراً، وكانت زوجته الصبيّة ألسي تنتظر عودته في منزلهما بدون أن تغادره، إلا لشراء الحليب والخبز، وهو المشوار الطويل الذي كانت تذرعه بوقت قصير، لتتفادى نظرات البقّال النهمة نحو جسدها الغض، ولكيلا ترى الفعل الصبياني الذي لا يملّ من تكراره حبيبها الأول: يرمي نحوها ورقة ملفوفة على حجر صغير، ولا تلتقِطها، كانت تعرفُ أنّ المكتوبَ فيها سطر واحد: “إنّي أموت كلّ يوم يا ألسي، كيف تطيلين الحياة من دوني؟!”. تبتسم في براءة: “إنّها عبارته عندما كان يعود دائماً إلى الحياة”!
أحبّها طبيب النسائيّة، وقال لها بحكم خبرته المهنيّة إنّها عنوان فصيلة من النساء، وشرطيّ المرور، كذلك، الذي كان عشقه لها سبباً من ازدياد معدّل الحوادث في واحد من شوارع لوس أنجلوس، وأحبّها أيضاً الشاعر الذي كتب قصيدته الأخيرة عندما اصطدمت كفّه اليسرى بكفها اليمنى، بشكل عفوي، أثناء مرورها لشراء ديوان لـ ري ينغ بير، وكان من الطبيعيّ أن يستعجل حبّها مديرها في العمل، صاحب مزاج نسائيّ حادّ، فيحاولُ في المرّة الأولى استدراجها، بعد مقدّمة قصيرة تكشف عن قصر صبره، إلى فراشه المكتبيّ، ومن المؤكّد أنّها صفعته، وخرجت مسرعة بعد أنْ لقنته درسها: “أحمق من يراود امرأة تحبّ زوجها، عن نفسها”.
لكنّ زوجها كان بالغ الحمق، إذ تركها، وذهب إلى موت مبكّر، بينما اكتسبت هي لقباً سيئاً: الأرملة الشابة التي تسكنُ الفيلا الكئيبة، لكنّ ذلك الوصف كان سبباً في إطلاق صفة الإعجاز على إخلاصها، فلم تبد أيّ تجاوب مع نظرات البقّال المصرّة على اصطياد مفاتنها، ولم تعط العاشق الأول أيّ طرف من الأمل ليعود إلى الحياة، وتخلّت عن الكثير من الإحساسِ بالأنوثة الذي كان يضطرّها إلى الذهاب للطبيب النسائي. أغلقت ألسي كلّ الطرق الوعرة إلى قلبها، حتى فقد شرطيّ المرور الأمل بمرورها، وفضّل الشاعر الانتحار كأيّ عاشق جاهلي مجنون.
اقترب المندوب الغامض من قبر زوجها، حيث تجلس. كان يعرف الجواب، لكنّ الأمانة الوظيفية تقتضي أن يخبرها بملامح آسفة: “سيّدَتي ألسي.. إنّ قيمة بيع القبر ستبدأ من 500 ألف دولار، وتنتهي عند عدد غير معروف من الملايين، لك الحق أن تقولي بأيّ صيغة تريدينها: لا”. ردّت ألسي بملامح محايدة، سرعان ما أخذت شكل الفرح المباغت الذي يحتاجُ مبرراً، كان واضحاً في قولها الذي صار مادة إعلامية: “لا يمكن أن أكون مخلصة أكثر من ذلك”!