آخر مرّة ركبتُ الطائرة، كان حدثاً عادياً قبل شهرين، قد يتكرّر عادة كلّ شهر. أظهرت ثقة شديدة أثناء صعود الدرج، كمن يزور بيت جده، اتجهت إلى مقعدي وفق الأحرف اللاتينية، بدون الاستعانة بالمضيفة الشامية. جلست متعالياً، وزفرت تأففاً خفيفاً من الاضطرار لربط حزام الأمان غير الضروريّ، وأبديتُ تعالياً آخر، فلم أصغِ لإرشادات السلامة المكرّرة، ولم يدفعني الفضول إلى النظر أسفل المقعد للاطمئنان على وجود سترة النجاة، ولم أستدعِ، كجاري الغشيم، المضيفة، لأسألها عن آلية فتح الشبّاك.
طارت الطائرة في موعدها القدريّ. جارة وقورة قرأت دعاء السفر، وكانت متأثرة، وتبدو قريبة من البكاء، كما لو أنها تشاهد رؤيا مشؤومة أمامها بدون أن تستطيع منع تحققها. ارتبكتُ لما نزل خيط رقيق من دمعها، وتراجعت عن حركة سخيفة، بأنْ أختار ضمن قائمة التلفاز فيلماً مصرياً عن رجل الغباء منه وفيه، لحرق ساعتين من الضجر. وضعتُ المؤشّر على القرآن الكريم، كما فعلت الجارة الوقورة، وكنتُ قريباً من البكاء، ويبدو أن خيطاً رفيعاً من الدمع قد نزل من عيني الضعيفة، لمّا اعترض الطائرة مطبّ هوائيّ، وأسقطت يدي للتأكد من وجود سترة النجاة.
كلّ شهرين أركب الطائرة، ولا مرّة فكّرت في صالة الانتظار الباردة، أنّها قد تسقط لعطل فني مفاجئ في الماء الشديد الزرقة، أو وسط ربعٍ خالٍ في الصحراء، وبالطبع لم يسعفني خيالي السينمائي المحدود لأن أتخيلني ممثلاً أميركياً، مع فارق نقاء اللون، منبوذاً، في جزيرة نائية، ربّما بالكاد استطعتُ بذاكرة سينمائية عربية مثقوبة، أن أتخيلني أحد ركاب “الطائرة المفقودة”، في واد لا يبعد كثيراً عن الحياة، في حبكة رديئة تنتهي بالسعادة غير محدودة. لم أشك مرة أني لن أعود من السماء، كنتُ دائماً على ثقة شديدة العماء بقبطان الطائرة، أو ربّما كنتُ على قناعة أن وفاتي أمر بسيط يمكن أن يتكفل فيه حادث تصادم على الطريق الزراعي.
وربّما ما زلت أظنّ أن الموت قرب السماء ترف ليس على كائن أرضيّ مثلي أن يحظى به. أفضّل أن أموت بغذاء فاسد، على أقلِّ من المهل، وعلى ألا تقلّ مدة الاحتضار عن عشرين عاماً، ثلثها بوضعية تمدد مهينٍ في طابور انتظار أمام عيادة الباطنية في مستشفى حكومي، أو بطلقٍ طائش عائد على غير هدى من السماء إلى الأرض بزفاف غفْل. ماذا لو متّ كما تموت أغنية طويلة، تنسحب بكبرياء من الإذاعة لتترك مساحتها من الأثير لعشرين أغنية. خلعت حزام الأمان مطمئناً لما انطفأ الضوء الآمر، ثمَّ اتخذت القرار الغبيّ بمشاهدة الفيلم.
سأسافر بعد شهر، وكلّ شهرين، ولن يكون الأمر بعد ذلك حدثاً عادياً، وقد لا يكون قابلاً للتكرار، فمنذ الرحلة 370 للطائرة الماليزية، المتجهة إلى بكين، أصبحت على يقين أني قد أموت، أو أختفي وراء أيّ عبارة حسنة يقولها الكابتن غير الموثوق، خصوصاً إذا قال عندما يأتي المساء بثلاث لغات متداولة “حسناً.. تصبحون على خير”، ثمَّ آخذ دوري بالسقوط المدوّي في محيط هادٍ أو عصبيّ، بسترة صفراء لا تستر عورتي، وكمامة أوكسجين قليل قد يؤخّر طقوس الاحتضار، والنبأ العاجل.