عند السادسة صباح خريفٍ في 1999 (.. والذكريات لا تقتصر على الربيع) استمعتُ إلى فيروز، أو دخل صوت السيّدة إلى أذني الوحيدة الفاعلة، فبرنامج “يوم جديد” أعاد أغنية قديمة لها عن رجل قديم يُسمّى ويوصفُ بـ حنّا السكران. في السرفيس كانت السيدة بأغنية أخرى تلحّ على “مرسال المراسيل” أن يحمل بدربه لحبيبها المنديل. وصلتُ مجمّع الحافلات واحدة منها تقلّني إلى جامعة اليرموك في مدينة إربد. فيروز أيضاً تكتبُ اسم حبيبها على الحور العتيق، وفي منتصف الطريق تسأله إلى أين هما ذاهبان، ينتهي الشريط فينتقل الصوت تلقائياً إلى بث الإذاعة، هناك تكون السيّدة صاعدة في طريق النحل. أصل شارع الجامعة، أطلبُ شطيرة الفطر من “أبو دريد”، وهناك شمس، وغيوم ثقيلة متباعدة، ووجهي الكئيب في 2002، وأيضاً فيروز تتذكر أشياء وتشتاقُ ما دام في كلّ سنة هناك.. خريف.
لم أجرؤ أن أقول أمام أمّي أو سائق السرفيس أو مُحصِّل النقود في الباص، أو جارتي في الطريق، بجرأة منقوصة، أنّي لا أحبُّ فيروز، حتى “أبو دريد” تردّدتُ أن أطلبَ منه وضع أغنية لنجاة الصغيرة عند الثامنة صباحاً، خشيتُ أن أصبح مثلاً ساخراً حتى نهاية العام الدراسي في أول الصيف (.. والخيباتُ لا تقتصر على الشتاء). عند الواحدة ظهر خريف في 1999، استمعتُ إلى محمد عبده أو دخل الصوت البريُّ إلى أذني، فعلى خطّ بلعما الصحراويّ هو المقرّر الغنائي، وإذا أصيبَ الشريط بالغثيان من فرط الدوران، يضع السائق أغنية مسكونة بالرموز، لكنّ لحنها الذي لا يصعد ولا يهبط، يساعد على نوم عميق. المغنّي أسمته الصحافة بـ سفير الحزن، والأغنية “حبيبتي كل العواذل تشابه”، ومن النافذة هناك شمس، وغيوم متباعدة، ووجهي الكئيب في 2002، وعبّادي الجوهر تعِبَ أخيراً، فانقطع نومي.
الرابعة عصر خريف في 1999، الباص صغير على خط مستقيم يبدأ من الزرقاء، فالرصيفة، إلى عمّان، والحزنُ عراقي عالي التركيز. هناك مغنٍّ يبدو أن صراخه يخرج من أنفه، هو “علي” الذي كان في كلّ رحلة يشكو المرأة المحدثة النعمة التي تكبّرتْ عليه بعدما أعطاها الله، ويتحداها أنْ تطير بعيداً بجناحيها الصغيرين. الشريط مكتوبٌ على غلافه “منوّعات”، لكنّ كل أغنياته، بالأصوات المُعذَّبَة المتشابهة، تشكو نساء غادرات، قاسيات ولاهيات، ومواويل أطول من ضفائر امرأة بصراوية، عن الغربة في البلاد الباردة، والحسرة على عشرين عاماً ذهبت بانتظار اكتمال القمر على شطّ العرب. تنتهي الرحلة، أبدأ أخرى، فأصعد باصاً أزرق طويلاً إلى مخيم الوحدات أو صويلح. أتهيّأ لوصلة راقصة، بلا حكمة واحدة، المغنّي يبدأ ما يبدو غناء، والسائق والمحصّلُ وصديق مشترك بينهما يكررون الغناء، ولا فرق أشعر به بين صوت جورج وسّوف والشاب الموشوم على زنده “أبو وديع”.
الغيوم الثقيلة التأمت، والحزن دامع، وسماء ملبّدة في خريف قديم، هذه أيضاً ملامح وجهي الكئيب في رحلة الإياب. حزن مصري ثقيل كشاي الفلاّحين، وأم كلثوم تصف حياتها بعيداً عنه، غلَبَها الشوق، وغلّبَها، ولا نوم في عينيها، ولا أحلام في بالها. أربعون دقيقة، ورأسي يهتز كالضوء الأزرق في سقف الباص، أودُّ أن أقولَ لـ “السّتْ”: لا ينقصني الحزن.. أطلبُ من السائق إيقاف الباص، أنزل قبل محطتي بنصف طريق، أركبُ سيّارة أجرة، يكون عبد الحليم منتظراً “في سكّة زمان”، ويعدني بعذاب آخر.. هو صيف 2003 (اعتقدت طويلاً أنه صيف). اشتريتُ سيّارة، ومنزلاً، وآلة تسجيل، وكان بإمكاني أنْ أضع موسيقا خالصة، أو أغنيات أوبرالية، وأقرّ بين زجاج السيارة أني لا أحب فيروز، لكنّي أعدتُ “النظام” من جديد: فيروز، صوت بري، كآبة عراقية، هلوسات راقصة، وحزن بطول النيل.
١٢٣Reem Hamoud، شروق العمري و١٢١ شخصًا آخر٣١ تعليقًامشاركتانأعجبنيتعليقمشاركة