فتّشتُ في الذاكرة عن امرأة صنعت موسيقا عربية خالدة، فلم أجد إلا الأسماء الذكورية التي لم تتعرّض للقصّ الفنيّ: محمد عبدالوهاب، محمد القصبجي، سيّد مكاوي، بليغ حمدي، كمال الطويل، زكريا محمد، الرحابنة، رياض السنباطي، حليم الرومي.. وأسماء عظيمة أخرى لو ذكرتها لانتهت المساحة المخصصة للمقال من دون أن يتاح لي التساؤل بنصف دهاء: هل التأليف الموسيقي مهنة ذكورية، مثل الحدادة والنجارة والكذب.
هناك عازفات ماهرات، شاهدتهن في الحفلات النخبوية، وعلى القناة الثانية يعزفن ألحان بيتهوفن العبقرية، قبل أن يصبح هذا الوصف في الزمن الافتراضي الأزرق، حكراً على زياد الرحباني. هناك أيضاً مغنيات بإيعاز من أصواتهن فقط، يتعاقب الليل والنهار، فلا يبدأ اليوم إلاّ بصوت فيروز، ولا ينتهي سوى بآهات أمّ كلثوم. وهناك منشدات لهنّ ضرورة في الكورال، وشاعرات كتبن أغنيات، وإن كنّ أقلّ عدداً وشهرة من الأسماء التي لم تتعرّض للقصّ الفني..
قد يذكّرني باحث ومتخصص في الشأن الموسيقي بأسماء موسيقية نسوية سقطت سهواً أو عمداً من ذاكرتي الذكورية، وهي أسماء تحتاج إلى البحث والاستقصاء وليست ناراً واضحة على علم بائن. قد تعترض ناشطة ملوّحة بوجهي بمقررات المؤتمر العالمي الرابع لحقوق المرأة. ربّما ترى كاتبة أنّ ملاحظتي خبيثة، وأني أقصد أن الرجل متفوق إبداعياً على المرأة، وأنيّ أصدّق هذربات الدراسات بأن أمخاخ الرجال أكبر من أمخاخ النساء، وأنهم بالطبع وبالمحصّلة وبالضرورة، أذكى منهنّ.
إذاً لنتفق بخبث أو ببراءة، بحقيقة أو بمؤامرة، أنه لا توجد “موسيقارة” عربيّة بموازاة النهر الخالد، ولا صانعة موسيقا تصويرية لفيلم كلاسيكي عظيم، كما أنّ أغلفة الاسطوانات تخلو من اسم ملحّنة لأغنيات خفيفة أو ثقيلة، شبابية أو كهولية. لا يوجد معادل أنثوي لعمر خيرت، ولا عمّار الشريعي، أو طارق الناصر. حتى المغنيات اللواتي وقفن عقوداً على المسارح لم تصنع إحداهن لحناً لها كما فعل ملحم بركات وخالد الشيخ وكاظم الساهر. ولنتفق أيضاً أن “الله من وراء القصد”.
النساء تركل كرة القدم، وتلعب الكرة الطائرة، وهناك من يقدن طائرات حربية، وليس مستبعداً أن يدخلن على قطاع الشحن البرّي من وإلى بغداد. لقد اقتضت مقررات المؤتمرات أن تحدث المساواة على قدم وساق في كلّ القطاعات، فدخلت المرأة العربية البرلمان، وأصبحت وزيرة، وناطقة باسم الدولة. بل إنّ بعض النساء ترأسن الرجال في قطاعات كثيرة من الأعمال، وأكدن أنهن بالطبع وبالمحصلة وبالضرورة، أذكى، لكني أريد امرأة واحدة أمهر من محمد الموجي، تصنع موسيقا للفنجان ولا تكتفي بقراءته.
في نميمة النساء، فإن مواهب الرجال تقتصر على التذمّر والتنمّر، وطلب الشاي، والماء الساخن، والسؤال عما تبقى من وجبة الغداء. لا يتقنون سوى لعب الشدة، والفرجة على الدوري الإسباني، والتعليق على سيقان الحَكمَة وليس على صفارتها. لديهم غيرة جندرية دفعتهم للدخول على مهن النساء في الحياكة وإعداد الطعام وصناعة الجمال، والنميمة.. وفي نميمة النساء أيضاً، فإنّ الرجال لا يصلحون سوى لتأليف الموسيقا والكذب.