في شتاء الكويت، في ليلة من ليالي عام 1973، كان ناجي العلي، في مزاج سيء، منعه من رسم الكاريكاتير اليومي. تداخلت في خياله الصور السوداء التي حدثت قبل أكثر من عشرين نكبة وست نكسات. لنفترض أنه نهض إلى مكتبه كما فعل نور الشريف في الفيلم المغضوب عليه، وشرع في رسم ذلك الولد الذي خرج في سن العاشرة من قرية “الشجرة” إلى الصحراء.
أدار حنظلة الأشعث ظهره للقارئ، عاقداً يديه دلالة عدم الرضا، مرتديا ثياباً مرقعة تشي أنه لن تظهر عليه نعمة النفط، حافياً كان أيضاً بقدمين كبيرتين تحفظان خط العودة. سيكتمل نموه، عندما يصيرُ حبراً أسود على الورق، ويصبح له لسان حاد، يبدأ أول كلامه بقول دمث: “عزيزي القارئ اسمح لي أقدم لك نفسي”.
وحكى الولد عن الصدفة التي جمعته بناجي العلي، حين كان في ليلة “كاره فنه ومش عارف يرسم”، وشرح له السبب بأنه كلما رسم عن بلد احتجت سفارته، حتى بات يفكر جدياً بأن يُبدّل “الشغلة”، بأخرى مسالمة. وراح يروي بفلسطينيته كيف واجه ناجي، وأخبره أنه شخص جبان، وقسا عليه بالكلام، ثمّ طيّب خاطره، بأن حمل عنه مهمة الرسم، لأنه لا يخاف، ولا يغريه المكيّف في السيارة الأميركية.
هذه حكاية حنظلة الناقصة التي يعرفها الجميع، قبل أن يصاب باليتم، وهو في العاشرة أيضاً، عندما مات ناجي برصاصة غير دقيقة أصابت أسفل عينه اليسرى. ومنذ ذلك اليوم الضبابي في لندن، لم يعد الصبيّ الحافي إلى الورق، أو إلى بيته الفلسطيني، حيث أبوه الذي اسمه.. “مش ضروري”، وأمه نكبة، وأخته الصغيرة في الترتيب وورق الكاريكاتير، فاطمة. صار طفل الحيّ الضائع، يأخذه أمين عام الحزب اليساري إلى مقره البائس ليأويه في مقابل أن يكون ختم بياناته “المزاودة”، أو يعطف عليه تاجر أنتيكا، ويمنحه مكاناً للإقامة الدائمة، خارج الجليل، بوظيفة بروشور فضي في بازار يرجو فعل الخير.
استغله العاشق عاطفياً، وتصالح فيه مع حبيبته بعد خلاف سياسي على المبادئ الأساسية، فأهداها حنظلة ذهبياً ليؤكد نواياه الحسنة، وأنه يريدها في البيت الزوجي، ووضعه السائق، المشكوك في وعيه السياسي، ملصقاً شفافاً على زجاج السيارة الخلفي، والسيدة علقته في مفتاح السيارة الأميركية لتأكيد إصرارها على حق العودة والتعويض. ينام الصبيّ الحافي الآن في بيت مقاول خرج من مخيّم الوحدات حافياً، وفي مكتب مناضل متقاعد قبل انتهاء عقد “قضية” شائكة، وفي جيب طفلٍ في العاشرة من فلسطين.
نجح أمين عام الحزب اليساري في الانتخابات، وتزوّج العاشق ثم تخلى عن مبادئه وزوجته، وكوّن تاجر الأنتيكا ثروة بحجم ثورة، وحظيَ السائقُ بإشادة رقيب السير على حسّه الوطنيّ. عادت السيدة إلى منزل ليس منزلها من غرفة وصالة في رام الله بعد “غزة وأريحا”. لم يعد حنظلة إلى “الشجرة”، ظل واقفاً، عاقداً يديه خلف ظهره، ووجهه لم يزل مجهولاً.. خجلاً ربّما.