الوقت مبكراً، منتصف العمر ربّما، أول الحلم تقريباً، في المسافة الدقيقة التي يكون فيها القادم أطول من الماضي بذارعين وخطوة خارج خطّ الرجعة، وما زلتُ منشغلاً في الإجابة عن سؤال لم يرد في امتحان الثانوية العامة: “كم يمكث اسم الإنسان على الأرض؟”، ففي وقت ما، مزاجيّ كالوحي الشعريّ، سأكون لاحق السابقين، وأختفي فيزيائياً من بين الأحياء، بنعي مهيب يفيد بأنني فاضل، وغانم وصفات أخرى لا تضمن بقاء اسمي حياً لأكثر من ثلاثة أيام.
سأذهب إلى هناك مجرّداً من المجد الذي يقيم لي تمثالاً أمام مطار بغداد، أو يعيدُ تسمية جسر معلق في قرطبة بالمقطع الخفيف من اسمي، فقد سبقني عباس بن فرناس، حين كان سارحاً، قرب قصر الرصافة، وظنّ أنّ بإمكانه التحليق، بأن كسا ذراعيه بالريش، وقفز تلك القفزة التي كسرت له ضلعاً صالحاً. لم يتح لي “الراحل” أن أضع بصمتي في علم الطيران، كلّ ما فعلته، لاحقاً، أني أركب الطائرة، في الدرجة المريحة، بانتظام كلّ شهرين من دبي إلى بيروت.. مع الخوف من استخدام الحمّام.
لن يُشاهد اسمي إلا على شاهد رخامي رخيص في مقبرة ينتهي عمرها الافتراضيّ قبل أن يصابَ حفيدي الأول بالخرف المبكر، فقد فوّتَ عليّ الإنجليزيّ النحيل نيوتن فرصة أن أردَ في كتب العلوم الملوَنة، مبتسماً ببله برفقة تفاحة خضراء، وسبقني كائن مجهول بالحصول على براءة اختراع الآلة الكاتبة، وأن يحفظ اسمي تلقائياً في ويكيبيديا. لن يُكتب اسمي السلس أسفل الماركات العتيدة، فكلّ الاختراعات حدثت قبل أن أختار الفرع الأدبي في الصفِّ الحادي عشر: المكنسة الكهربائية، الرادار، شاشة تلفزيون بلازما، محمصة الخبز الكهربائية، لعبة حلزونية، حتى آلة غسيل الكلى.
ذهبتْ كلّ فرص الخلود الأدبيِّ في منهاج الصفّ العاشر: ففي وسط الصحراء، اكتشف الخليل بن أحمد الفراهيدي بحور الشعر، ما أتاح لـ قيس أن يجنّ بـ ليلى، ويقتصر الجنون على حبّ مريضة في العراق، ويختصر جميل بحبّ بثينة الناقص، في وادي القرى، العشق حين يكون سبباً للموت، وحدثت امرأة لن تحدث “عضّت على العنّاب بالبرد”، وانتهت الرجولة في وصف بسيط “الخيل والليل والبيداء”. لا مكان لآخرين، ففي سؤال تعجيزي في امتحان الثانوية العامة للجيل الإلكترونيّ العاشر، على الطالب المبرمج أن يجيب بوضع نقرة على اسم القائل: “على هذه الأرض ما يستحقُّ الحياة”، بحركة إرادية ضمن ثلاثة خيارات لا تقبل الشّرك: نزار قباني، محمود درويش، وأدونيس.
أحمل اسمي في بطاقة الأحوال المدنية، ستون عاماً ربّما، الوقت متأخراً، آخر الحلم تقريباً، عندما كان بسيطاً: أن يمكث اسمي على الأرض كحجر روماني، شعر كاذب بأحرف إغريقية على جدار افتراضي في العام 6 آلاف بعد الميلاد. لا شيء يدلّ على ذلك حتى الآن، كلّ ما قلته عن قصد، وفعلته عن تصميم، وابتكرته عن خيال واسع، لن يخلدني أكثر من سطر شعريّ: تُنسى كأنّك لم تكن.
فاسمي الذي يُبقي والدي حياً، لن يرد في فقرة “حدث في مثل هذا القرن” المملة: فلقد كنت قتيلاً في صبرا، والتاريخ يخلّد القاتل، وشاهد عيان في حرب الخليج، والكاميرات تعتني بشهود الزور، كنت ألعب في الحيّ كرة القدم، ولخلل ما في الجينات لم أصبح مارادونا، وكنتُ أغنِّي دائماً في سرِّي، ولحكمة ما لم أكن عبد الحليم حافظ. كنتُ قبل الحلم واحداً من الناس، من المتزوجين مثنى وثلاث، المدانين لثلاثة بنوك، الذين يستأصلون المرارة في أحلى العمر، وينجبون بإفراط للخلود في “دفتر العائلة”.