محمود درويش كان يحبّ القهوة، قال مرة إنها “مفتاح النهار”، ووصفها أيضاً بـ”أخت الوقت”، فتُحتَسى على مهل، وتُصنع على مهل، كالحبّ تماماً، وفي حوار تلفزيوني تحدث بشِعر كثير عن طريقة صنعها. هي إذن “لون الأرض”، وقال أيضاً إنّها “رائحة الأرض بعد أول مطر” و”الأنثى الوحيدة” و”عطر أمه” وكلّ ما يمكن أن يصيبَ المشروبات العشبية بعقدة النقص الدونية!
محمود درويش كان يحبّ القهوة؛ لكنّ هذه ليست وصفة لكتابة الشعر!
صحيحٌ أنّ الشاعر الكبير والأكبر (حتى يرثَ الله الأرضَ) تورّط في كتابه الفاتن “ذاكرة للنسيان” بالقول الذي صار فيما بعد امتحان مستوى للشعر: “كيف تكتب يدٌ لا تبدع القهوة؟”، إلا أن هذه العبارة (أو التعميم أو المرسوم)، يمكن الجواب عنها بعبارة أخرى لدرويش، “أنقذونا من هذا الحبّ القاسي”.. هذا لو كانت بذور البُنّ تحكي!
وبسبب ما كتبه درويش في حبّ القهوة (لا شكّ أنّه نادم الآن في نومه الأخير في حديقة البروة)، صار لدى كثير من النساء قناعات صباحيّة أنه يمكن أن يصرن شاعرات قبل إعداد وجبة الغداء بنشر صورة محاطة بالورود قرب فنجان قهوة مع عبارات طافحة بعاطفة غامضة، مجزّأة كما يكون الشّعر الحُرّ، وبسبب ما كتبه درويش أيضاً (الذي لو عاد لاعتذر عمّا فعل) أهمل كثير من شبّان الألفية الجديدة قراءة المعلّقات، مكتفين بقهوة رصيفيّة سائلة في كوب بلاستيكي!
التمر بالكركديه كان المشروب المفضّل لدى الروائي المصريّ الأشهر، نجيب محفوظ، والشاعر نزار قبّاني رغم ما في شِعره من مشروبات للروح، إلاّ أنه كان من شعب الشّاي، ولما كنتُ فضولياً، رأيتُ شاعراً كبيراً في مقهى بوسط البلد يمزج الشاي بالحليب، ما نتج عن ذلك لون لا يمتُّ للفنّ بأيّ صلة.. وشعراء وفنانون ونحّاتون رأيتهم يشربون الأعشاب التي ينتج عنها عصير أصفر ساخن.. بلا حرج أو شعور قليل بخيانة الفنّ من أوله حتى سابعه!
محمود درويش كان يحبّ القهوة، وهو مزاجه الشخصيّ الذي أشاعه بقصيدة شهيرة في حنينه لأمّه “حوريّة”، لكنّ ذلك لا يعني أن نفيق كل صباح في هذا العالم الأزرق على صور الورود الحمراء، والركوات الشاميّة، وفناجين القهوة الشقراء، أمام بذور البنّ الخام، وعبارة مكتوبة بالأسود على المشهد الصباحيّ (غير الطبيعيّ) في الصورة: “لا حياة من دون قهوة”.. رغم أنّ ملايين البشر يحيون من دون خبز، ولا يعرفون عن مشتقاته من المخبوزات السكريّة سوى أنّها “صور تعبيريّة”!
أنا من شعب الشّاي العراقيّ، و”المُعَلَّمينْ على الصدعات”.. كنتُ أمشي كيلومترات في وسط عمّان في زمن التسعينيات، حتى أصل مبنى البنك العربي، وأشتري استكانة شاي بالهيل من ركنٍ ظلّ ثابتاً حتى الغزو الأميركي لبغداد. لكنّي مؤخراً (أي بعد سنوات وأكثر من غزو) بدأت أشكُّ في جودة ما أكتب (وليس هناك رأي سابق أنه جيّد)، فطلبتُ من صديقي الباكستاني في العمل قهوة تركيّة.. جاءني بها بسرعة ماكينة، فطلبتُ منه الهدوء، وأن يصنعها على مهل.. كالحُبّ!