تنشر وسائل الإعلام “المحترمة” و”نصف المحترمة” و”العديمة” أخبارها وتقاريرها، الخفيفة والثقيلة، على مواقع التواصل التي أصبحت أهمّ “سوق حُرّة” للمنتج الإعلامي، وتتفق جميع هذه الوسائل بمختلف درجات الرزانة و”الاحترام” على عرض البضائع بالجملة والمفرق، مغطاة أو مكشوفة، بطريقة تشويقية تستفزّ “المستهلك” المتسكّع في شارع “التايم لاين” على فتح رابط المادة الصحفيّة، ودخول الموقع، آمناً، وجرّه إلى “زيارات” أخرى لها حسابها عند الوقوف على سلالم “أليكسا”.
تكون العناوين في لعبة التشويق مكتملة لغوياً، ناقصة في المعلومات، فيستعاض عن ذكرها، بأفعال آمرة على غرار: شاهد، تعرّف، ولا مانع أن يكون هناك رجاء متفاوت الحرارة يأمل منكَ (عزيزي المستهلك) أن تضغط على الرابط الأزرق. لكنّ الإعلام الذي له قليل من الكرامة، يتجنّب الاستجداء، يكتب باقتضاب مقصود: “هكذا انتحرت فلانة”. لكنّ كل الوسائل، بمختلف درجات الرزانة و”الاحترام” تتفق على صيغة واحدة تدعوكَ وترجوكَ للتعرّف على ردّ فعل طليقة “طارق العريان”.
اقرأ “هذه حقيقة حَمْل نانسي”، واقرأ أيضاً “هذه مواصفات زوج هيفاء”، وشاهد هذا المقطع المؤثر قبل الحذف. هل تريد التخلّص من السكّري والدوالي في خمسة أيام.. اضغط هنا. لن تصدّق شكل ترامب عندما كان مراهقاً حالماً شاهد بالصور والوثائق. انظر كيف أصبح أبناء زينة وأحمد عز (ما يوحي بأنهم نسخة غير مستخدمة من البشر) هذا ما تفعله وسائل الإعلام بمستوياتها كافة من الاحترام، ولم يبق إلاّ أن ترشّ المياه على مدخل الصفحة، مع صوت محمد رضا: “استعنّا على الشقا بالله”.
لا فضول لدي، يا وسائل الإعلام من مستويات “الاحترام” كافة، لأعرف كم يبلغ راتب “ماكرون” السنويّ بعد اقتطاع الضرائب، وأستطيع النوم من دون أن أضبط رأسي على موعد “الانقلاب الشتويّ”، كما أن مجرى حياتي لن يتأثر إن لم أطلع على الفوائد المدهشة للكمثرى، ولن يتعكر نهاري إن لم أر جنيفر لوبيز بإطلالة رياضيّة.. والمؤسف أنْ أتعرّض للإذلال بالأسئلة التشويقية لأعرفَ موعد وقفة عرفة قبل نصف سنة من رمضان.
عربات جائلة في شارع التايم لاين، وسوق للملابس المستعملة، وفاترينات لعرض الأسلحة والنساء، وبورصة لأعداد القتلى الذين ظنّوا أن موتهم يزعج القاتل، ومقدمات صوتيّة لحروب لا رجال لها. هنا عند الواحدة صباحاً، في شارع التايم لاين تتبّع الرابط الأزرق لتعرف موعد الحرب التي لن تقع، وماذا قال عنها وزير خارجية الدولة التي لا ناقة لها ولا جمل، واقرأ أيضاً “هذه هي طرق الموت الجماعيّ في الحرب”، وتبتهج لأنّ في هذا الموت رحمة.
لا شيء يثير فضولي، هنا عند الواحدة صباحاً، في شارع التايم لاين، مهما استدرجتموني بالعناوين المشوقة والمبتورة، والحيل اللغوية البائدة. لا شيء يستحق أن أصرخ مهللاً، وأكسر فنجان القهوة، أو أطير نصف طيران مرح، فأنا فاقد للدهشة العاديّة والدهشة الفلسفيّة، منذ أن وقف سعيد صالح بالأبيض والأسود لأول مرة على خشبة المسرح في زمن الستينيات، منبهراً أن هناك جوارب “المطّاط منها”!