تلقيتُ ضربة على رأسي، كدتُ أسقط في حفرة امتصاصية، لكنّي تماسكتُ ففي ركبي بعض العظام السليمة. ما زلتُ واقفاً رغم كلّ الضربات، ولدي قدرة استثنائية على المشي ألف ميل أخرى حتى أصل.. ليس مهماً أين سأصل، المهمّ أن أواصل المشي، وأثبت لمن يراقبني وينتظر سقوطي أنّي ما زلتُ صلباً، وأنّ رأسي بانتظار الضربة التالية، ولن أعدّ الضربات، فلستُ ممّن يحبون دور الإنسان المطحون الذي يكتب أول المساء يوميات طافحة بالأسى، فأنا حفيد جَدّ كان يقول حين يقترب من البكاء “اللهمّ لا اعتراض”، ولا أذكر أنه اعترض، ولم أره يبكي، ولقد عاش ثمانين حولاً طافحة بالكبت.
“الحمد لله” أنّي قادر على الوقوف مرة أخرى، وألف شكر لهذه الطرق الإسفلتية المهترئة التي احتملت سقوطي المتكرّر. ما زلتُ واقفاً رغم أن ضربة جديدة باغتتني أسفل الرقبة، أعرفُ أنّها كانت صفعة مُهينة، وكانت على ما يبدو اختباراً مؤلماً لقدرتي على الصبر مع نقص الكرامة، لكني دعوت الله أن يعينني على البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، ويجنّبني شماتة الأعداء. وصلت إلى مكتبي لم أكن ثائراً، بل كانت رقبتي غائرة بين كتفيّ تحسّباً لصفعة جديدة. قاومتُ رغبة بالبكاء، وكبتّ صراخاً برياً، ثمّ قلتُ آراء سياسية حادة في انحباس المطر، والرعي الجائر، وهزائم فريق العاصمة الاسبانية.
هناك ألم معيبٌ أسفل الرقبة، وضرب مركّز في مؤخرة الرأس، وشج مؤذ وسط الجبين، وتورّم أزرق حول العين اليسرى، وكدمات وسحجات في الظهر والساقين والزندين. لكنها آلام لن تفضي إلى موتي، فلن يأتي في تقرير للطبّ الشرعي أن سبب الوفاة “صفعة مهينة على الرقبة”. كلّ هذه الضربات هي مثل الرصاص بين قدمي امرأة ترقص، ربما أصبتُ بالذعر، وحتماً لقد شعرت بانتقاص في الكرامة، وربما بكيتُ وراء شجرة البلوط، لكني عدتُ إلى الشارع العام، اندمجت في وسط أزمة السير، مع أولئك الذين ينتظرون أن تصبح الإشارة خضراء، وألا تتأثر بالضريبة حبوب اللوبياء.
جدّي الذي عاش ثمانين حولاً طافحة بالكبت، كان يقول أمامي “إنّ الله إذا أحبّ عبداً ابتلاه”، وكان يبدو سعيداً بأنه مبتلى، ويتحسس بفخر آثار السحجات أسفل الرقبة، ويبدو أن عليّ أنْ أرث سعادة جدّي بالبلاء الذي سيدخله الجنّة، بل سأنكر وجود البلاء، وأقول تفسيرات علمية في انحباس المطر، وثقافية في الرعي الجائر، وواقعية في هزائم فريق العاصمة الاسبانية. والآن أنا في طريق العودة إلى البيت، سأطلبُ من زوجتي كأساً عشبياً ساخناً يصلح لعلاج كلّ الأمراض، وأطلب من أمّي كمادات دافئة لمواضع الألم، ومن جدّتي وصفتها القديمة لإعادة لصق الكرامة.