مثل كلّ النساء، يغضبني السؤال خفيف الذوق: كم عمركَ؟
وتثير أعصابي محاولة الاحتيال لمعرفة العمر، كأن تسألني فتاة متنابهة عن تاريخ تخرّجي من الجامعة، ولما أخبرها، تردّ مشككة: يبدو أنك كنتَ تنهي السنة بثلاث سنوات. أو يسألني فتى نصف وجهه شعر ونصفه الآخر بثور، عن الحرب التي شهدتها في طفولتي. أجيبه بنصف عين حمراء: حرب الخليج. يردّ بوقاحة مكتسبة، وهو ينزع شعرة، ويعصر بثرة: الأولى أم الثانية. أسأله بغيظ نسويّ: لماذا أسقطتَ الثالثة يا .. وأرميه بشتيمة قديمة، محدودة التداول!
مثل كلّ الرجال، أخشى من أن يغلب الأبيض على الأسود في لحيتي، وتتقاطع الخطوط الغليظة على جبهتي الممتدة، وأختصر كثيراً من الضحك. أتحاشى، مثل كلّ الرجال، الحديث مع الفتيات اللاتي ولدن مع اكتساب الهواتف للذكاء، حتى لا تخاطبني واحدة منهنّ بعمّها الذي لم تنجبه جدّتها. أكسر نصف الألف حين أذكر “زمان”، وأسقط ثلاثة كؤوس للعالم أزعم أنّي لم أعاصرها، وأردّ على سؤال المضيفة الذي يبدو عادياً إن كنت أفضل ملعقة سكّر واحدة مع الشاي، بثلاثة مكابرة أرسمها بأصابع حانقة.
لكني اكتشفت أنّ الأمر مثير للأعصاب، وقد يزيد من كآبتي التي تسرّع من علامات الشيخوخة، ولا بدّ من ابتكار حيلة أدبية أو لغوية أو حتى سينمائية مثل تلك الشائعة بأن عمرك في البطاقة يختلف عن عمرك مع من تحب، وعن عمرك وأنت غاضب، وإلى آخر المشهد الخالد. لم أصرخ مثل نيوتن، فقد وجدتُ الحيلة في كلّ شيء حولي، وفي كلّ ساعة أقضيها في البيت، أو خارجه. اكتشفتُ من دون واسطة الفيزياء، وحدة بطيئة لقياس العمر، سهلة النطق من دون نحت لغوي: الجهل.
فرغم أنّ الشيب صار يغطي نصف لحيتي، إلا أني ما زلت أجهل أين يوضع خاتم الخطوبة، في اليسرى أم اليمنى، وفي أيّ أصبع. أجهل الطريقة الصحيحة لوضع حجارة الطاقة في جهاز التحكم بالتلفزيون، وهي مهمة نصف سنوية تتكفل بها الجارات المتعاقبات على الشقة المنحوسة. ولن أخجل من الإقرار، بأني رغم كلّ هذا “الزمان” مع كسر نصف الألف، ما زلتُ أجهل آلية تبديل جرة الغاز، والتفريق بين مؤشر البترول و مؤشر الحرارة، وكم كأساً من الماء مقابل كأس الأرز، والفرق “الجوهريّ” بين بريطانيا وإنجلترا!
اكتشفت بعد أن صار الشيبُ يضيء رأسي، أني “جاهل” وأن قائمة الجهل لديّ أطول من ألف الزمان من دون الكسر، وأني دائم الدهشة مثل طفلة في الخامسة، وكثير الأسئلة مثل طفل في العاشرة، وحين أتعلم ما هو معلوم، أردّد بنصف الخشوع “فوق كلّ ذي علم عليم”. أجهل كلّ ما هو بديهي ومعروف ومفروغ منه وما تمّ تجاوزه منذ كذا ألف للزمان، وما زلتُ بحاجة إلى جارتي وابنها وكلّ أبناء الحلال الواردين في أدعية أمي.
والآن إن سألتني فتاة متنابهة: كم عمرك
سأجيبُ مثل طفل في العاشرة: بالأعوام أم بالسنوات!