في خريف العام السادس من عقد التسعينيّات، كان المغنّي “السامرائي” خارجاً من بيت نزار قبّاني اللندنيِّ، وفي معطفه قصيدتان، ورهان واحد. مدرسة الحبّ أو قصيدة الحزن كما هي في الأصل في ديوان “قصائد متوحشة”، أحبّها الشاعر الكهل، فهي طربيّة، ودراميّة، فيها أجواء من “قارئة الفنجان”، وقِطع من روح محمد الموجي، أما زيديني عشقاً، أو “جسمكِ خارطتي”، فقد رفضَ لحنها.. قال إنّه شبابيّ، وسريع مثل الفاكس!
ردّ السامرائي بوجهة نظره: “القصيدة فيها فرح، ولا تصلح سوى أن تكون نشيداً”، ولم يقتنع الشاعر الشامي، فاحتكما إلى “عمر” ابن نزار. استمع إلى اللحن السريع، وانحاز الشاب إلى اللحن الخفيف، وقال بلهجة السوق إنّها “ستضرب”، فوافق نزار، وكسب السامرائيُّ قصيدتين ورهاناً. أعاد الشاعر سماعَ الأغنية، بينما استعجل المغنّي الطريقَ إلى القاهرة، إلى الشركة المنتجة، وسلمَها النسخة الأخيرة، وبدأ يعدُّ الأيّام التي تفصله عن تلك الأيّام.
جاءه هاتف متأخّر من الشاعر الشاميّ: “ماذا فعلت بزيديني عشقاً”؟ أدرك السامرائيُّ أنّ في الأمر إضافة، فأحضر ورقة وقلماً، ودوّن وراء الصوت الذي يسيلُ شعراً: “يا أحلى امرأة بين نساء الكون أحبّيني”، وأكمل ثلاثة أسطر.. كان الشاعر بأذنه الحسّاسة، رأى أنّ الانتقال في مقدّمة الأغنية سريع، والوصول يكون بلا توطئة إلى المقطع الخالد “أنا أقدم عاصمة للحزن”. أصرّ الشاعر على الإضافة، واقتسم مع السامرائي الرهان.
“ضربت” الأغنية بمنطق السوق التجاريّ، وستصبح فيما بعد تاريخاً من تواريخ التسعينيات المجيدة، فالأغنية صارت نشيداً في حافلات النقل العام، وساحات المدارس الثانويّة، وأسواق العرائس، وهي الغزل الجاهز الذي يسعف زوجاً أو جندياً أو بائعاً جوّالاً إذا تمنّعن. فرك السامرائيُّ يديه، وذهب إلى لندن، وبكاميرا خاصة تسجّل الحوار، قال للشاعر الشاميّ كيف أن الجمهور على المسارح الرومانيّة كان يردِّدها كالنشيد.. وربِحا، أو اقتسما الربح.
مال حساب الربح، وانحنى نحو السامرائيِّ، الذي كان يكبر ألف سنة موسيقية، وهو يدخل طرفاً في الخصومة التاريخية بين ابن بلاده عبد الوهاب البياتيّ، ونزار قباني. كانت حربٌ ورقيّة تدور من بيروت وعمّان ودمشق، استراحت قليلاً، حتى استمع البياتي إلى زيديني عشقاً، فكتب أو نفخ في الرماد: “لولا السّاهر لما سمع أحد بقبّاني.. فقد حوّل المعدن الخسيس إلى ذهب”.. وردّ نزار، فوصفه بـ ابن آوى والأرملة!
صار يمكن العثور على اسم المغنّي السامرائي في نشرات الأخبار، وأيضاً في فواصل غنائية لإذاعة المعارضة، وقيل إنه تعرّض لمحاولة اغتيال على الحدود بدافع الغيرة من عدي صدّام. يُسألُ عنه الشعراء، فيقول في وصفه مظفر النوّاب: “أسمع أنّه مطرب عراقي، لكنَي لم أر شيئاً عراقياً فيه”، ويُحكى أن محمود درويش قال لأصدقائه منزعجاً إن السامرائي يحاول أن يكون “عبد الحليم” بنسخة عراقية، وكان درويش حليمياً أصيلاً.
“عصفورة قلبي، نيساني، يا رمل البحر، ويا غابات الزيتون، مروحتي، قنديلي”.. إذاً صارت أوصاف الحبيبات في متناول البصر، والغزل الذي كان على الأرصفة بالعامية المتدنية، صار أيضاً على الأرصفة بالفصحى أو بتفصيح العام. ستكون الأغنية واحدة من الثورات الفنية، أي ثمة وما قبلها وما بعدها.. فليس هناك ناطق بالعربية إلا وقد بالغ في الرجاء: “زيديني”!