ذات صلة

زيديني عشقاً في بورتريه

غنى السامرائي “اختاري”، وهي القصيدة التي لو انحسر منجز نزار قبّاني في عشر لكانت واحدة من هذه القصائد. طرِب الشاعر الشاميّ للحن والشهرة التي حققتها الأغنية في العام الرابع من التسعينيات، فهاتف المغني العراقي ليعرض عليه قصيدة “سيغزو” بها العالم العربي. أسمعه “جسمكِ خارطتي” وشهرتها لاحقاً “زيديني عشقاً”، ردّ المغني بأنه أنجز تلحين القصيدة في بداياته المتعثرة في بغداد الثمانينيات والحرب الطويلة.

وفي لندن، في الخريف السادس من التسعينيّات، كان السامرائي خارجاً من بيت نزار قبّاني، وفي معطفه قصيدتان، ورهان واحد. مدرسة الحب أو قصيدة الحزن كما هي في الأصل بديوان “قصائد متوحشة”، التي أحبّها الشاعر الكهل، فهي طربية، ودرامية، فيها أجواء من “قارئة الفنجان”، وقِطع من روح محمد الموجي، أما زيديني عشقاً، فقد رفض لحنها.. قال إنه شبابي، وسريع مثل الفاكس.

ردّ السامرائي بأن “القصيدة فيها فرح، ولا تصلح سوى أن تكون نشيداً”، ولم يقتنع الشاعر الشامي، فاحتكما إلى عمر بن نزار. استمع إلى اللحن السريع، وانحاز الشاب إلى خفّته، وقال بلهجة السوق إنها “ستضرب”، فوافق نزار، وكسب السامرائي قصيدتين ورهاناً. أعاد الشاعر سماع الأغنية، بينما استعجل المغني الطريق إلى القاهرة، إلى الشركة المنتجة، وسلمها النسخة الأخيرة، وبدأ يعدّ الأيّام التي تفصله عن تلك الأيام.

جاءه هاتف متأخر من الشاعر: “ماذا فعلت بزيديني عشقاً”؟ أدرك السامرائي أن في الأمر إضافة، فأحضر ورقة وقلماً، ودوّن وراء الصوت الذي يسيل شعراً: “يا أحلى امرأة بين نساء الكون أحبّيني”، وأكمل ثلاثة أسطر.. فقد رأى الشاعر بأذنه الحسّاسة، أن الانتقال سريع في مقدمة الأغنية، والوصول يكون بلا توطئة إلى المقطع الأكثر خلوداً “أنا أقدم عاصمة للحزن”. أصرّ الشاعر على الإضافة، واقتسم مع السامرائي الرهان.

“ضربت” الأغنية بمنطق السوق التجاري، وستصبح فيما بعد تاريخاً من تواريخ التسعينيات المجيدة، فالأغنية صارت نشيداً في حافلات النقل العام، وساحات المدارس الثانوية، وأسواق العرائس، وهي الغزل الجاهز الذي يسعف زوجاً أو جندياً أو بائعاً جوّالاً إذا تمنّعن. فرك السامرائي يديه، وذهب إلى لندن، وبكاميرا خاصة تسجّل الحوار، قال للشاعر الشامي كيف أن الجمهور على المسارح الرومانية كان يرددها كالنشيد.. وربِحا، أو اقتسما الربح.

مال حساب الربح نحو السامرائي، الذي كان يكبر ألف سنة موسيقية، وهو يدخل طرفاً في الخصومة التاريخية بين ابن بلاده عبد الوهاب البياتي، ونزار قباني. كانت حرب ورقية تدور من بيروت وعمّان ودمشق، استراحت قليلاً، حتى استمع البياتي إلى زيديني عشقاً، فكتب أو نفخ في الرماد: “لولا كاظم السّاهر لما سمع أحد بقبّاني، فقد حوّل المعدن الخسيس إلى ذهب”. وردّ نزار، فوصفه بـ ابن آوى والأرملة!

صار يمكن العثور على اسم المغني السامرائي في نشرات الأخبار، وأيضاً في فواصل غنائية لإذاعة المعارضة، وقيل إنه تعرّض لمحاولة اغتيال على الحدود بدافع الغيرة من عدي صدّام. يُسألُ عنه الشعراء، فيقول في وصفه مظفر النوّاب: “أسمع أنه مطرب عراقي، لكني لم أر فيه شيئاً عراقياً”، ويُحكى أن محمود درويش قال لأصدقائه منزعجاً إن السامرائي يحاول أن يكون عبد الحليم حافظ بنسخة عراقية، وكان درويش حليمي المزاج.

زيديني عشقاً في بورتريه”عصفورة قلبي، نيساني، يا رمل البحر، ويا غابات الزيتون، مروحتي، قنديلي”. إذاً صارت أوصاف الحبيبات في متناول البصر، والغزل الذي كان على الأرصفة بالعامية المتدنية، أصبح أيضاً على الأرصفة بالفصحى أو بتفصيح العام. ستكون الأغنية واحدة من الثورات الفنية، أي ثمة وما قبلها وما بعدها.. فليس هناك ناطق بالعربية إلا وقد بالغ في الرجاء: “زيديني”.

نادر رنتيسي
نادر رنتيسي
كاتب له عدة إصدارات قصصية وسردية ويعمل في الصحافة
المادة السابقة
المقالة المقبلة