فقدَ الفلسطينيّون صوابهم، أو هم كفروا.. فبعد خمسة وسبعين عاماً من النضال العسكري في الداخل والشتات، والجهاد السياسي، العلنيّ أو السريِّ، وبعد لا الناهية في بيروت، ونعم الرافضة في أوسلو، والاستخدام المفرط للأفعال الماضية في تونس، وبعد الوقوف المتقطع في “المقاطعة” في رام الله، على شبر واحد من فلسطين التاريخيّة، وبعد النوم في الشعر المقفّى، وفي الرواية التي تنتهي بسقوط المسرح، يقبلون الآن بما تبقى من الحلم: علَم ونشيد.. في شارع غير نافذ.
الفلسطينيون هم الذين تسبّبوا بصداعٍ مزمن لسكّان الكوكب، وأصابوهم منذ خمسة وسبعين عاماً بما يصيب الضمير من أوجاعٍ. لم يستريحوا، أو يأخذوا عاماً واحداً فرصة لتأمّل تزاوج الطيور. وهم أيضاً الذين احترفوا الجدل: موت أم شهادة، لجوء أم نزوح، بندقيّة أم غصن زيتون، خيمة أم شبه دولة، من البحر أم من النهر، عملية انتحارية أم استشهادية، فتح أم حماس، محمود درويش أم أحمد ياسين. أكثر من سبعة عقود ولا إجابة يمكن أن تغلق السؤال، بل هم الذين ابتدعوا أولويّات الجدل “من قتل ليلى الحايك أم من قتل ناجي العلي”؟
للعالم تقويمه، وللفلسطينيين تقويهم، فأيامهم ليست من سبت إلى ثلاثاء إنما من دير ياسين إلى صبرا، والأربعاء شاتيلا. أشهرهم ليست كانون الأول أو الثاني، إنما انتفاضة أولى وثانية، وأعوامهم حصار وعاصفة ثمّ غزة وأريحا أولاً. وللعالم طقوسه، وللفلسطينيين من سانتياغو إلى فروانيّة الكويت، طقوسهم: ففي الأعراس يكتبون على الدعوات هامشاً ضرورياً لتحليل التزاوج، وتحريم الفرح، وفي بيوت العزاء يخجلون من تحديد سبب الوفاة بالعضال أو بالذبحة، فكلّ مرحوم كان ينوي الشهادة وراء الجسر.
مات الفلسطينيون في دير ياسين ومجازر أخرى بالأبيض والأسود في الأفلام الوثائقية. ماتوا في عواصم عربيّة في حروب من أجل أن تظلّ الخيمة.. خيمة. موت في اللجوء والنزوح وموت حتى في العودة إلى شبه فلسطين. موت في انتفاضتين وفي ذكرى الانتفاضتين، وموت جماعي خال من الرحمة في حرب غزة الطويلة. والفلسطيني ليس فقط شهيداً، فهذا اختزال يضرّ بالسياق، هناك مُبعد إلى الداخل، ومبعد إلى الخارج، جريح يمكنه الحياة وجريح فقدها، وأسير ثمّ أسير محرّر، ومطارد.. وراقص دبكة.
صار للفلسطينيين بعد خمسة وسبعين عاماً من الفيلم الوثائقي، عندليب أسمر، ومسلسل كوميدي له أعداء عابسون، ودوري لكرة القدم فيه شغب. في صحفهم هناك تفاصيل مروّعة لجريمة شرف، وفي سينماهم قبلات، وفي شِعرهم أحلام عاديّة كما وردت في خيال فتى في الطائف أو فتاة في أسيوط، وفي أحيائهم المقطوعة عن الإسفلت ولاءات مشدودة بين مدريد وبرشلونة. ما عاد الفلسطيني معنياً بأن يكون المعجزة الجديدة الذي يُقتلُ ولا يموت، صار له ولهم أحزانهم الخفيفة، كنفاد رصيد الانترنت، وبدا أن الفلسطينيين قد فقدوا صوابهم.. لكنّهم ما كفروا.