كأنّي عشت، وكان لي رقم طويل في هوية الأحوال المدنية يوحي بأنّي ولدتُ متأخرا، وصورة بنصف عبوس ونصف آخر مفتوح على التأويل، واسم رباعي خفيف، سهل الحفظ والحَمْل، ويمكن أن أدندن به، لكنّ ملامحي كانت دارجة، وعلاماتي لم تكن فارقة، بل كانت شائعة في الحي والأحياء المجاورة، حتى العاهة المستديمة لم أتميّز بها وحدي، وهذا يعني أني كنتُ عرضة للاشتباه، كما أني اجتهدتُ لإقناع زوجتي بأنّ لي نسخة واحدة، ولما وقعت الحرب متُّ أكثر من مرة، وشربتُ القهوة في بيت العزاء.
كأني مررتُ من هنا. لا شيء يؤكد ذلك، سوى دفتر محدود للعائلة، وكتابين للاستغناء عن خدمات كنتُ أظنها جليلة، وحقيبة يد بها فواتير مستحقة، وأدوية لأمراض تميتُ ولا تقتل. لي ملف صغير من نصف ورقة، في رفٍّ في الفرع الأمنيّ شديد الحرز، مكتوب فيها أنّي “على باب الله”، وأن لا خوف منّي، فأنا من الزواحف التي تصعد أخفض الجدران، وممن ينامون في التاسعة مساء، بعد نشرة الأحوال الجوية، وفي الهامش معلومة تفيد أني مسالم، وأنّ القطّ يشفق علي فيقاسمني عشاءه.
ذكرتني كلّ الصحف في أيّام السّلم بصفتي المواطن الكريم، وظهرتُ بعد الحرب في فيلم وثائقي بهيئة “شاهد عيان”، وفي أوقات الرخاء اتصلتُ بالإذاعة المحلية في الثامنة صباحاً لأشكو نباح كلب جارنا ليست هذه كل سيرتي الذاتية، فقد خرجتُ في صباح “العرس الوطني”، ووضعتُ صوتي الرقيق في الصندوق، واعتقدتُ طويلاً أني واحد من مجموع الرأي العام، ممّن يمكنهم بعد نضال سياسي مُرٍّ، وبيانات ورقية لا تكفيها أخشاب غابة، تغيير اسم شارع غير نافذ.
ليس لي بطولة لأحكي عنها في سرادق العزاء وحافلات النقل العام، أو مغامرات عابثة أنظمها في قصيدة نبطيّة، كنتُ مجرّد رأس في صورة جماعية بالأسود والأسود، لمشيّعين، أو مهنئين، ولفرحين، أو غاضبين اعتقدتُ أن الصورة لن تكتمل إن غابت رأسي، لكني الآن أقفُ خارج الكادر، ولم يُلفت خروجي انتباه أحد، فلا شائعة واحدة في المدينة عن وفاتي، ولا نساء ينسجن حكايات خرافية عن هروبي وراء قافلة ابنة السلطان، حتى الرجال لم يجتمعوا في حلقة ناقصة أمام الدكّان لذِكْر نصف محاسني.
لم أعد صالحاً، ولو أنّ لي تاريخ صلاحية محفوراً أسفل قدمي اليسرى، لسحبتني “حماية المستهلك” من الشارع العام، قبل أن أُفسد المارة والمختلطين بي باللمس والشم والعناق، حاولتُ كثيرا أن أبدو مفيداً، وقابلاً للاستعمال أكثر من مرة: هتفتُ، وصرختُ، وضحكتُ، وبكيتُ، وقلتُ كل ما كان ينبغي أن أقوله في كلّ المواقف المُصرّح بها، لأزعمَ أني حيٌّ و”مستعمل” ومزاول للحياة، وأنّ كلّ هذا العمر الأبيض في رأسي لم يكن مشياً فوق الماء.