في الهدنة يتثاءب النهار، ويصيبُ الخدر أطرافه وفكّيه، ويُغنّي مستعجلاً الليل. في الساعات الأولى من الهدنة تعود للمقاهي قهوتها، وتمشي مقاعد القشّ إلى الرصيف، وتماماً في الوقت الذي كانت فيه البنادق تحتكر المساحة الفارغة بين الأرض والسماء، يعلو بوضوح فوق طاولة المقهى صوت حجر النّرد في ذهابه، فيصرخ فائز، ويحيل الخاسر خسارته إلى الحظّ، وهو أيضاً الحظّ الذي جعله يُعمِّر في الحياة حتى يبلغ الهدنة.
تنادي امرأة أصابت الحرب أعصابها وعينها اليسرى، على فتى الحيّ النبيه، ترجوه إصلاح خلل غير مفهوم في اللاقط، ففي الهدنة تعود الكهرباء نصف نهار، ويمكن للمسلسل التركيّ الطويل بلا كلل أن يستأنف أحداثه المشوقة: هناك زواج بالإكراه، ومفعول ضعيف لحبوب منع الحمل، وعصابة مزوّدة بمسدسات نصف آلية، تطارد بطلاً لا يمسه خدش، وما تزال لحيته خفيفة لم تنمُ منذ الجزء الأول قبل خمس سنوات، تستغرب المرأة التالفة أعصابها، رغم أنّ عشباً برياً قاسياً قد تعربَشَ في زوايا هيكل الصاروخ.
في الهدنة يجلس زوجان مكسوران على ركام البيت، يقول الزوج بنصف النظر “هذا الحجر من غرفة الأولاد، القشرة الورديّة دلّتْني، وهذه القماشة الخضراء أظنّها من مريول البنت، وتلك الخشبة لا بدّ أنّها من سطح طاولة الطعام”، يغلي إبريق الشاي فوق رماد لم تُبرّده الهدنة، تقول الزوجة “حجارة قبري أريدها من القشرة الوردية، وكفني مريول، وتدبّر، برحمة أولادكْ، خشب النعش من بقايا طاولة الطعام”. تمرّ طائرة من فوقهما، لتراقب أنفاس الهدنة، وتسأل الزوجة المكسورة زوجها المكسور: “كم معلقة سكّر”؟!
يخلع الجنديّ، في الهدنة، خوذته، يملؤها برمل ودم، ويضعها برفق بجانب طريق ناجية، وينتظر أن تزهر فيها شقائق النعمان، قبل خروج الرجل صاحب الوجه الأصفر أمام العلم الأزرق، ليعبّر عن قلقه الشديد من أن تنسف الطريق الناجية بقنبلة عنقوديّة، ويتأسّف لأنّ الهدنة لم تصمد على قدميها الرخوتين. وبكلمات انجليزية واثقة، نقلتها القنوات المتحاربة بترجمتين متناقضتين، يفهم منهما أنّ الحرب قد تعود، أو أنها توقفت لاستراحة المحاربين، وتنظيف فوهات المدافع، وتطبيب الجراح السطحية، وبناء أسيجة حول مقبرتين جماعيتين، لعلمين متشابهين.. ومختلفين.
الهدنة هشّة مثل طبقات الكيك، قال محرّر الشؤون العربية والدولية في مستهلّ التقرير الذي أحصى مائة خرق في الساعة. والمحلّل السياسيّ علّق على ذلك بالقول إنّ الخروقات كانت ضروريّة حتى لا يُفاجأ الناس بالحياة الطبيعية، واستعانت المذيعة برأي أخصائيّ التغذية، الذي حذّر من أنّ عودة الطعام إلى جسد المضرب عنه ينبغي أن تتمّ ببطء شديد لتجنّب متلازمة إعادة التغذية، فلا يقتله سبب الحياة، وفي شأنٍ ذي صلة، أكّد الراصد الجويّ أنّ تحليقَ الطائرات في السماء أثناء الهدنة سيستمر حتى انحسار المنخفض العميق، وأنّ زخات عنقودية متفرقة ستتساقط على فترات، داعياً إلى الحيطة والحياة بحذر.