لم تنم غولدا مائير ليلة حرق المسجد الأقصى. نُسِب إلى رئيسة وزراء إسرائيل بين النكسة وتشرين، اليهوديّة الأوكرانية، أنّها كانت تخشى أن يدخل العرب أفواجاً، لكنّها لمّا طلعت شمس الثاني والعشرين من آب 1969، زفرت كلّ الهواء الفاسد الذي شهقته طوال ليلة متوترة خالية من الأعصاب، وأطلقت وصفها الشهير على العرب بأنّهم “أمّة نائمة”. لكن كان على مائير، أن تشهق هواءها المرّ، وهي تستمع من إذاعة دمشق بعد عام، إلى خطوات الحركة التصحيحية، فقد كان اسم القدس على جبين البيان رقم واحد.
سلك وزير الدفاع السوري حافظ القرداحيّ، الطريق إلى الحكم بالقفز وراء أسوار القدس. اعتقل الرفاق في سجن المزة ربع قرن، أصدر دستوراً جعل الدولة هي البعث والحزب هو الدولة، أنشأ حكماً خانقاً من العائلة والطائفة، حرق حماة الآرامية بأحيائها وأمواتها، وبين شارعين زرع مخبراً، وفي كلّ البيت ظلاً لمخبر، ذهب إلى لبنان وضمه إلى الحزب والعائلة والطائفة، ابتكر عشرة أنواع من المعارضات الفلسطينية لتأييده على الفلسطينيين، ولم ينس القضيّة التي وراء الأسوار، فأنشأ لها الفرع 235 ورصّ في ثلاثة طوابق تحت الأرض كلّ من يعارض الحزب والعائلة والدولة، وأسماه فلسطين!
وإلى القدس أيضاً، وبعد عام واحد من موت مائير، شُقّ طريق آخر في عمق الشرق. حكمت الثورة الإسلامية، إيران، وصعد الخميني إلى ما فوق سدة الحكم. سدّد النار على الحلفاء، وتفرّغ ثماني سنوات للثأر من صدّام التكريتي على رحلة النجف – الكويت، حتى تجرّع كأس السم، ووافق على وقف إطلاق النار، وماتَ مهزوماً. خاضت الجمهورية الإسلامية حروبها الطموحة للتمدّد والتشيّع، هيمنت على بغداد، وسمّتها عاصمة “الإمبراطورية”، وتتحكّم بأحوال بيروت وملامح رؤسائها، وتسند بالأسلحة الثقيلة خشب الكرسيّ الذي يجلس عليه بشار القرداحيّ في سوريا على بُعد هضبة من إسرائيل، ولها الآن مسمارٌ ومطرقة في صنعاء، ومهام كثيرة في المنطقة منوطة بـ فيلق القدس.
مرّت أربع سنوات على موت مائير غير المطمئنة في نومها، فأقرب طريق إلى القدس، باتت تمتدّ بيسرٍ من الضاحية الجنوبية والأوزاعي، حتى النبطيّة، ومن هناك مرامي الحجارة على حيفا، و “ما بعد حيفا”. غسل حسن نصر الله يديه من الحرب الأهليّة، وجمع بين الكاتيوشا والبيان السياسي المكتوب بالحبر الأسود من “قُم” عبر القناة الضرورية من دمشق. تحرّر الجنوب، فاحتكر حزب الله النصر، والمقاومة، ونسخ مفردات خطابه من قاموس الممانعة، افتعل حرب تموز ليضيف ورقة إلى ملف إيران النوويِّ، واحتلّ بيروت في السابع من أيار، كأيِّ ميليشيا عاقة، وذهب إلى دمشق باتجاه فلسطين، لتحرير القدس، بعد المرور الاضطراري في مقام السيدة زينب!
تنام غولدا مطمئنة، لم يقلق نومها حرب، أو خطاب، أو قمة، أو محور، فكلّ هذه الحروب ولم يجد عشرون مرابطاً في الباحة المقدسة رصاصة واحدة، بين أكوام الحجارة، مكتوب عليها: إلى القدس.