بعد أن صار شعركَ رمادياً، وأسنانكَ آيلة للسقوط، وفحص النظر أصعب من إعراب جملة صينية، وبعد أن فقد قلبكَ القدرة على النبض الإضافي، وفحص السمع أصعب من درس الممنوع من الصرف في اليابانيّة، صار الحبُّ في المتناول، في الرفّ الأوسط، ويمكن أن تجده إن سألتَ امرأة في المتجر الفرنسيّ عن شبيه الكزبرة.
وإن خرجتَ إلى العمل مبكراً أو متأخراً، وإنْ تلكّأتَ عند المصعد الكهربائيّ، في أيّ وقت لو كنتَ ضجراً وليس بين أصابعك ما يكسر الرتابة، فهناك امرأة مستعدّة للحب، خرجتْ منذ يومين من حبٍّ سريع، وتبحث عن فرصة للنسيان، أنتَ أيضاً خرجتَ من حب تعيس، وتبحث عن حبّ خفيف لا يؤلم.. مثل ماكينة إزالة الشّعر.
أما زمان؛ أي عندما كان شعركَ أسود، وأسنانكَ تقضم التفاح الأخضر، وبصركَ حديدا، وسمعكَ يتعقب خطوات النمل، وزمان أيضاً؛ أي عندما كان الوقت يمشي بمحاذاة النهر، والألوان في الأفلام آخر الدهشات، وما يقوله جدّكَ لأبيكَ أصدق من نشرة أنباء الثانية عشر ظهراً، فكان الحبُّ صعباً مثل امتحان مصيري في الإعدادية، وشحيحاً مثل الخبز الأبيض.
كان عليكَ قبل موعد الحبّ، أنْ تحفظ خطاب عبد الناصر على منصة المنشيّة، وتردّد رأياً سيئاً عن جلباب وزبيبة السادات، ويكون لك موقف من كلّ شيء ويفضل أن يكون معارضاً، وتحتفظ بكتاب أحمر فاقع في حقيبتكَ الجلدية، وتخبر امرأتكَ أنّكَ تحبُّها أكثر من الحرية ومن الاشتراكية أيضاً، ولن تقنعها بأن لا امرأة أخرى في قلبكَ، إلا عندما تشهر إيمانكَ بـ “الوحدة”.
إن لم يكن لديكَ موقف شديد الانحياز للمقاومة في فيتنام، ولستَ ترى فيدل كاسترو ديكتاتوراً طيّباً، ولا ترتدي قبعة تشي جيفاراً أثناء صفارات الإنذار، فإنكَ لن تجد حباً نزقاً، يعوّضكَ عن عدم المشاركة في واحدة من الثورات الخاسرة، ولن تعرف من النساء سوى ابنة عمّك الإمام، تتزوّجها وتنجب منها صالح ومصلح.
أنْ لا تعرف بحور الشعر، وتفاعيلها، وألا تحفظ الاسم الرباعيّ لسيبويه وكنيته، ولا يزيد الفصيح على العاميّ في كلامكَ العادي، فهذا يعني أنكَ قد رسبت في اختبار كشف الهيئة، ولستَ لائقاً للحبّ، فلا امرأة في زمن الأبيض والأسود والقليل من الألوان، كانت مستعدة للاستماع إلى عاشق ينصب المرفوع، ويرفع المنصوب، ويُسكِّنُ ليسلَمْ.
والمرأة التي كانت تنكسر لها أضلاع القلب، كان ينبغي أن يكون فيها تمرّد نوال السعداوي، وثوريّة جميلة بوحيرد، ونزق دلال المغربي، وأنوثة سعاد حسني، وجرأة ميرفت أمين، وعاطفة فاتن حمامة، وبعد أنْ تبلغ اليأس وتدخل عامكَ الأربعين في العام 1976، تجدُ عبد الحليم حافظ يخبرك بوضوح غنائيٍّ صادم أنْ “ليس لها عنوان”.
أما أنا فقد ولدتُ في العام 1979، ولما دخلتُ سنّ الحبّ كان الوقتُ يمشي بمحاذاة الطريق السريع، والفاكس لن يكون آخر الدهشات، ولا أصدّق سوى ما تقوله مذيعة السي إن إن. دخلتُ الحبّ وخرجتُ منه، مثل طفل يلهو مع الباب الكهربائي، ولا ألم في الجهة اليسرى، وقد سألتُ امرأة للتو عن شبيه الكزبرة.. وأعرفُ أنّها لا تعرفه.