مثل رجل قادم من ثمانينيّات القرن الماضي، أنتظر المكاتيب المروّسة بالأزرق والأحمر، القادمة من بريد صويلح، وأحرّك بشغف مؤشّر المذياع وراء صوت كوثر النشاشيبي، و”أطقُّ” مفتاح التلفزيون ثلاث “طقات” متتالية قبل أن يستقرّ في الثامنة إلا ربع على صوت فيروز “أردن أرض العزم”، وأفتح الصحيفة من منتصفها، من حركة الطيران، لأتتبع مواعيد الطائرات القادمة من مطار الملكة علياء، أسال القادمين عن جودة محصول الزيت، وثمن الدونم في طبربور قبل “العَمار”، ومن سيلاقي الوحدات في نهائي الكأس.
ومثل رجل لم يغادر الثمانينيات، ما أزال أفتح كلّ المحطات المحلية، والصحف اليومية، والمواقع المفتوحة والمحجوبة، وأتلصص على كلّ صفحات الأردنيين على فيسبوك: لأجمع كلّ الإجابات المحتملة على سؤال واحد: “شو أخبار البلد”.
قبل سنوات غادرت عمّان، من المبنى العتيق للمطار، وما كنت أملك إجابة واحدة أملأ بها فضول رجل لا يريد مغادرة ثمانينيات القرن الماضي، كنت أخشى أن يسألني عن “صحّة” الدينار، وإن كان بمقدوره المشي على قدميه من دون “ارتباط”، وأتوجّس أن يسألني عن أسباب تراجع حالات الوفاة الطبيعية لمصلحة حوادث السير ومعارك الجامعات، وقد يسألني بمكر إن كان لذلك علاقة بما أشيع على سبيل الجدّ الهزليّ بأنّ من شروط الترشح لمجلس النواب المقبل الحصول شهادة من مركز معتمد في الفنون القتالية.
خرجتُ والباص السريع يمشي على مهله، ومشروع وسط البلد الجديد يحتاج لإنجازه، ما احتاجه وسط البلد القديم ليصبح قديماً، وسيارة الأجرة بين عمّان والرصيفة تأخذ نصف التكلفة التي كانت تكفل قبل 20 عاماً وصولاً سريعاً إلى بغداد. خرجتُ والـ 100 دينار يمكن صرفها في مطعم وجبات سريعة، ومحل للعصير الطبيعي في المول، وصيدلية تبيع المسكّنات المحلية. كانت المياه، لما خرجتُ، على وشك التلوّث، وثمة نية لتعبئة الهواء في علب بلاستيكية، والكهرباء كانتْ تمسّ وتلمَسُ وتمسكُ 70 % من المجتمع الأردني.
أفتح المحطات المحلية لأتابع فكّ الحصار الشعبي المسلَّح عن قاعة امتحان التوجيهي، وأقرأ كل ملاحق الجريدة فقط لأقف على أسباب قتل الجار الستينيِّ لجاره السبعينيّ، وأفتح فيسبوك لأراقب ارتفاع السقف، وميل الناس إلى الضحك المقلق من دون سبب مقنع، وأفتح تويتر لأحظى بملخص الحكاية كلها: مواطن يدفع ثمن سيارته ثلاث مرات: مرة عندما يشتريها، ومرة عندما يرهنها للبنك، وعندما يشتريها، مرة أخرى بنصف الثمن، من سارقها.
“شو أخبار البلد”: كيف لي أن أقنع هذا الرجل المصرّ على البقاء في ثمانينيات القرن الماضي، أنّ هناك “أسئلة ما لهنّ أجوبة”، أو أنّ أجوبتها محرجة، أو محيّرة تحتمل الخطأ، وفيها كثير من الظنِّ، ما يعني أنها تحتوي على نسبة عالية من الإثم: لا أحد يدخل شارع الجاردنز يستطيع مواعدة آخر في شارع مكة بعد “ساعة زمن”، ولا أحد يدخل محطة البنزين ويعرف أين وصل مؤشر أوكتان 90، ويكون على طرف الشارع اعتصامٌ احتجاجي على أمر لا يروقُ لبعض الناس، وثمة اعتصام آخر لناس يروقهم الأمر: لا تسألني أنا مع من، فكلّ همي أن أتفادى رادار المطار.
أسئلتك صعبة، أصعب من حل المسائل المعقدة لفرص تأهل المنتخب الوطنيِّ إلى كأس العالم، سترجوني أن أجيب عن سؤالك الأخير: لماذا تزداد القمامة في عمّان، رغم أن الغلاء مصاب بـ الفحش. سأقول لك إني لا أحبّ الإجابات الغامضة عن أسئلة واضحة. الإجابة الوحيدة التي أستطيع تقديمها لك بمنتهى الدقة هي أن كوثر النشاشيبي قد أعطتك عمرها.