حين أصاب بالزهايمر سأظنّ أنه كانت لي حياة صاخبة، وأن الندبة التي في وتر العرقوب، أصبتُ بها خلال حرب تحرير فلسطين الرابعة، والغرز التي في رسغي الأيمن كانت في واحدة من حروب الشوارع بين حارة عليا وأخرى سفلى، أما العلامات الداخلية المحرجة، فقد كانت في المعتقل الصحراويّ، حين قلتُ لا بينما كان الوقت نعم. سيلاحظ الطبيب خراباً في روحي، وانكسارات لا تلتئم، سأحيلها إلى الآثار النفسية بعد حرب الخليج الخامسة.
سأصاب بالزهايمر في ستينيات هذا القرن. ولأنّي كنتُ دائماً أحلم بأن أعيش في زمن عبد الناصر، فسيختلط الأمر عليّ، وحين أشاهد تجمعاً حاشداً، سأنضمّ إليه وأصدح بالهتاف الشهير: “لا تتنحّى”، وقد أسأل الممرضة عن مصير عبد الحكيم عامر، فقد قرأت في عدد الأهرام بالأمس أنه تمّ القبض عليه، وأشمتُ بمحاكمة صلاح نصر، وأقسم لها أن السادات لن يصبح رئيساً. سأصاب بالزهايمر في الستينيات، وهذا يعني أنّي سأشهد النكسة، فقد فاتني العرض الأول.
سأظنّ أني كنتُ شهيراً. لست متأكّداً إن كنت مغنياً أم شاعراً أم لاعب كرة قدم، لكني عشت قصة حبّ مع نبيلة عبيد أفسدتها المجلات الصفراء وفضول القرّاء. كان هاتفي لا يكفّ عن الرنين، وصندوق البريد ثقيل مثل غصن برتقال، والفاكس يُسقط رسائل الودّ المستعجل على مكتبي مثل شلالات فيكتوريا. كان حبّ الناس يحاصرني، حتى أني لم أكن أهنأ بفنجان القهوة على كورنيش عين المريسة، فاضطررتُ للتخفي بالنظارات السوداء مثل ملياردير يحنّ إلى الحيّ الشعبي.
سأخبر صحافية شقراء في العشرين من عمرها، أني كنت صديق محمود درويش، وفي بئري أسراره، وأني استنكفتُ عن صداقة أدونيس لخلاف بنيوي، وابتعدت متعمّداً عن طريق سميح القاسم، وكنتُ طرفاً في واحدة من الحروب الكثيرة التي خاضها عبد الوهاب البياتي. سيكون في وسعي أن أكشف للصحافية البريئة أن الأغنية النادرة التي تُطربها مع حبيبها، أنا الذي كتبتها للمطرب الراحل كاظم الساهر حين “كان صديقي”، قبل أن نفترق مثل أي ثنائية عربية بالضغينة.. والنكران.
ومثل عمر الشريف، سأصاب بالزهايمر. سأنسى كما نسي “لورنس” كلّ النساء اللواتي مررن في حياته المثيرة، فهو الدنجوان الذي أحبّ من النساء ملء جزيرة. صوفيا لورين أيقونة الإغراء والإثارة، كانت واحدة منهنّ، لكن حين تخفت ذاكرته وتضمر خلايا دماغه، لن يسأل في أولى نوباته المرضية سوى عن فاتن حمامة التي كانت قد سبقته إلى الموت. والآن لديّ فضول كبيرٌ لأعرف باسم من سأهتف حين أصاب بالزهايمر، وأنسى كلّ النساء.. إلا واحدة.
بملء الرئتين سأقول حين أصاب بالزهايمر في ستينيات هذا القرن: لقد عشت، وذقتُ كل ما اشتهى لساني من طيّبات، وما هوى قلبي من نساء، وامتلكتُ بين يديّ ما أفقدني لذة الحلم. لن أكون كاذباً، لكنّي سأخشى في ذلك الزمن مسناً لئيماً يكبرني بعامين وعافية، سيقاطع حديثي، ويفضح سرّي أمام الصحافية الشقراء وكل من يجلس معنا في دار المسنين، ويخبرهم بأنّي عشتُ ثمانية وسبعين عاماً في الحياة، ولم أشهد سوى موسم واحد للتين.