ذات صلة

حميات

خسرت دهوناً زائدة في البطن، كانت تحتاج إلى “محرقة”، فأقلعتُ عن تناول اللحوم التي تبدو حمراء، وتنازلت عن حصّتي من النشويات والزبدة الساخنة، ثمّ قاطعت السكريّات بشكل عدائي، اعتبرتها بضاعة مصنوعة في المستعمرات. المشروبات الغازية أيضاً اكتشفت أنّها تسبّب أمراضاً أكثر من السباحة في “الترعة”، فتوقفت عن التجشؤ. صرتُ خفيفاً مثل ريشة في يوم عاصف، تخليت عن الحمّالات، وأغلقت الزرّ الأخير في القميص. بتُّ أكتفي بمقعد واحد في المترو، وشعرت أني الوحيد المقصود في أغنيات تصف رشاقة عود البان. بمعنى آخر أصبحتُ واحداً بعدما كنتُ “جماعة”.

أمسكتُ هاتفي البالغ الذكاء، حذفت كلّ التطبيقات التي لا أحتاجها أو التي قد لا أحتاجها، أو تلك التي عدم بقائها لن يقصّر عمري شهراً قمرياً، ثمّ فتحتُ ألبوم الصور، هناك ذكريات تثير الضحك، وأخرى تزيد المرارة، حذفتها جميعها لأني قرأتُ مرة أنّ الحياد في المشاعر يُطيل العمر. ذهبتُ إلى جهات الاتصال، هناك خمسمائة اسم تنشط في حالة العزاء، ومع اقتراب الأقساط المدرسية، وعند تاريخ استحقاق السداد، أزلتها جميعها، ولم يتشظّ قلبي، وأبقيتُ خمسة أسماء أحتاجها ولا تحتاجني. حذفتُ كلّ الإضافات حتى عاد هاتفي بدائياً، وتساوينا بحدود الذكاء.

كتبت رسالة هاتفية لامرأة كنتُ أبكي كأول العشق إنْ توعدّتني بالغياب، أسألها الرحيلَ. كنتُ قاسياً كأني عاشق من خلفية عسكريّة، فلم أترك لها أيّ فرصة للردّ، إذ حظرتها من إمكانية مهاتفتي أو إرسال رسائل ليليّة. امرأة أخرى كان يبدو أني مناسب لأحلام يقظتها أثناء مشيها في النادي الصحيّ، وربّما كانت تعتقد أني الرجل المثاليّ الذي يمكن أن يكمل معها المشوار الزوجيّ حتى بلوغ الزهايمر، فاجأتُها بمديحي للوحدة، وتحدّثتُ بأسلوب علمي مغشوش عن فضائل العزوبية، وفوائد الطعام المهدرج. لم أبقِ أيّ امرأة في قائمتي، وقلبي الآن ردهة فندق.

أخليتُ رأسي من المواقف السياسية التي تسبّبُ الصداع النصفي، ومن والأيدولوجيات التي يمكن تناقضها أن يشعل حرباً أهلية بين النصف الأيمن من الدماغ والنصف الأيسر. لستُ متعاطفاً مع الذين ماتوا على هيئة أحياء في المجزرة، ولا أوصاف حادة يمكن أن أطلقها على مرتكب المذبحة، فمشاعري سويسرية، وقلبي سويدي، و”رأسي مالي”. توقفت عن التفكير بأمر اللاجئين وصلاحية المعلّبات، ولم يعد يهمني من اسم المبعوث الأممي المسالم سوى الخفة الموسيقية، حتى الشريط العاجل الذي يبشّر بقرب انتهاء الحرب لم أكترث لمروره، ولم أكذّب أنباء غير موثوقة عن بدء السلام، وعودة الشهداء إلى مسمياتهم الوظيفية.

حمية نباتية، وسياسية، ونسائية، ولا بأس بأخرى تكنولوجية، اتبعتها منذ بداية إحساسي بالتخمة، واقترابها من مستوى الخطر، اعتقدتُ طويلاً أنّ الأمر مقتصر على الدهون المزعجة التي تسدّ مجرى الدم، والفائضة عن الخصر، لكني اكتشفت أنّ في قلبي بدانة، وفي رأسي سُمنة، وفي هاتفي دِبَبة. عدتُ خفيفاً مثل ريشة في يوم عاصف، هاتفي لا يرنّ إلا للطوارئ التي لا تحدث، ورأسي خوذة جندي مُسرّح، وقلبي كما حدّثتكم، ردهة فندق. صرتُ بعد حميات قاسية رجلاً صحياً، خفيف الذهن، سعيد البال، خال من الكوليسترول، و”الهموم” الثلاثية.

نادر رنتيسي
نادر رنتيسي
كاتب له عدة إصدارات قصصية وسردية ويعمل في الصحافة
المقالة المقبلة