قبل العام الفرديّ الحادي عشر بعد الألفين، وقبل حريق محمد البوعزيزي بمصيره الروائيّ في سيدي بوزيد، كانت هناك تجارة لا تخسر في أسواق الشام، وعالية الربح في دكاكين مصر القديمة، لا بدّ أن تجدها على الرصيف الأحمر في بيروت، ورفوف الأكشاك الطارئة في رام الله. تجارة حلال لمن يمشون وراء الماء فوق سقف السيل في عمّان: أشرطة كاسيت تبشّر بالثورة وتحدّد بالوزن والقافية نهج الأحرار، وعلى أغلفتها صورة ليد دامية تكسر القيد.
وفي شريط الكاسيت الأسود، والأبيض، أو حاصل مزيج الشاي بالحليب، كان صوت ابنة صور، البيروتيّة النشأة، جوليا بطرس، التي كانت في العشرين، عندما انتفضت الأرض المحتلة، وكان جنوب لبنان قد اقتطع من الشمال العربي، وفي نشرة الأخبار أنظمة تدخل الحروب باسم فلسطين، وتخرج منها باتجاه الشرق، ولا تسمح بذكر اسمها خارج الأغاني وبيانات الحزب الأول. كانت تغنّي بانفعال موسمي “وين الملايين” لنجدة “عدل مصلوب”، ونسبَتْ نفسها وشملتْنا بمعيّتها لـ الثورة والغضب، ولما قامت بدل الثورة خمس ثورات، رقّ صوتها وغنّت من بين كلّ الرجال الثوريين، لواحد مجهول دمه خفيف!
وبلحية سوداء، وقميص أخضر، وديوانين لمحمود درويش، ظهر في الثمانينيات فنّان من عمشيت عُرف سريعاً باسم مارسيل خليفة. كان شاباً شيوعياً، يحرِّض النائمين على النهوض لـ الثورة والثأر. يحمل وعوداً كثيرة علّقها على عوده، وهو يقيم حفلات في الكويت وجرش وقرطاج. يده كانت تلوّح حماساً للجمهور لشدّ الهمّة، وفي فقرة ضرورية تكون وراءه شابة تغنّي لـ عصفور طلّ من الشبّاك، وهي حكاية مغناة عن الحريّة التي لأجلها قامت خمس ثورات في العام الفرديّ، لمّا صارت لحية مارسيل بيضاء، وأصبح يقيم في حيِّ باريسي، وله حسابات بنكية غير محدّدة. ذهب الشهداء إلى النوم، لكن المغنّي لم يصحُ، فقد مرّ ليل آخر اختلّت فيه أماكن الحروف بين الثورة والثروة!
في مواسم الهزل، كان يظهر على الشاشات ممثل قصير، متر زهيد ونصف المتر، بطربوش وقبقاب للقدمين والرأس، يؤدّي مقالب ابتكرها نهاد قلعي، حتى تأتي مواسم الجِد، في أيّام النكسات، يقف على المسرح، ليمثّل ما لقّنه إيّاه محمد الماغوط، بمفردات محدودة: المحتلّ والمستعمر، من الغربة حتى تشرين. ظنّ الناس في المشرق والمغرب، أنّ غوّار، ويُدعى أيضاً دريد لحّام، هو معارض مُرّ، ليس لأنه موظف نزيه يرفض التوقيع على “مشروع الحنفيّة”، ويصرّ حتى الموت على كتابة “التقرير” في كلِّ الرؤوس التي ستتقاسم الميزانية الضخمة، بل لأنه “أبو أحلام” الذي يخبر أباه الشهيد عن نقص الكرامة، ولما جاءت بدل الكرامة خمس كرامات قال بقامته القصيرة من أكناف دمشق للمحتلّ الإيرانيّ “في روحك القداسة”!
كان لنا، قبل العام الفرديّ الحادي عشر بعد الألفين، أحزاب حمراء، فوق الأرض وتحتها، وأمناء عامون أمضوا في المعتقلات سنين عددا من أجل الحرية والعدالة الاجتماعية، وشعراء تفعيلة ووزن صارم ساندوا شمال فيتنام، وأرسلوا التحيّات لـ الرّفاق في كوبا الأبية، ويساريون طفوليون يشتمون الراسخ والمكرّس لنيل حبّ فتيات مصابات بالأنيميا، يحفظون الرديء والبذيء من شعر مظفر النوّاب، وملخّصات لـ مهدي عامل، ويروون قصصاً واقعيّة وأخرى مضافة إليها عن حرب العصابات للثائر غيفارا. يحتفلون بصدور اسطوانة لـ خالد الهبر، وديوان لـ سعدي يوسف، ويشربون بمطاعم معتمة نخب الثورة البلشفية، ومن بعدها بمائة عام قاوَموا خمس ثورات لأنها لم تضمن لهم حريّة شرب البيرة في الظهيرة!
يا أيُّها الثوار، قولوا ما شئتم من غناء وشعر ومسرح في “المؤامرة الكونية”، فقط أعيدوا لنا أشرطة الكاسيت.. فارغة.