في حزيران الأسود في عام الانقلاب، داس ملثَّم من شرطة حركة حماس على صورة ببرواز كلاسيكيّ لياسر عرفات. وضع حقده وحذاءه العسكري المستورد من إيران على الكوفية البيضاء المرقطة بالأسود. تلك الصورة الشهيرة كانت بداية حقبة من سبعة أعوام لـ “سلطة الأمر الواقع” في غزة، وعنواناً واضحاً بلا لبس والتأويل فيه محدود الخيارات: الكوفية أو رأس ياسر وما بينهما من رموز.
كان “أبو عمار” نائماً في عامه الثالث، في قبره العالي على بعد عشرات الأمتار من حجرة حصينة خاض فيها آخر معاركه بكوفيته والخارطة الكاملة، بمسدسه والرصاص والحدس، وثقته الناقصة بالنجاة. وكانت حماس تعدّ القبور والكلاب لأعدائها الواضحين في حركة فتح، ونجحت كما توثِق ذلك أفلام قناة الجزيرة بـ “الحسم العسكري” المبكر، وفق الزمن القصير الذي حدَّده الحرس الثوريِّ الإيراني، نفَذ رجال القوة التنفيذية كلّ الأهداف الصادرة من دمشق، حتى الهدف الذي يسكن الحجرة الأخيرة في القصر: صورة ياسر عرفات
الثأر قديم، والمعركة بينهما كانت على الوجود. فبعد أن قرأ ياسر عرفات خطاب الاستقلال في الجزائر، وحرّك خليل الوزير من ضاحية سيدي بوسعيد الهادئة الانتفاضة الأولى في الضفة وغزة، كانت حماس تنشأ بظرف مريب، بواسطة عملية خبيثة تشبه إنجاب طفل الأنابيب. كلّ المال على اختلاف ألوان العملات، وتغير سعر الصرف وفق أسماء المراحل السياسية الملونة، كان له من رفع الراية الخضراء في غزة هدف واحد: كوفية ياسر عرفات
وبذلك، وفي سبيله، أتمّت حماس “الحظيرة العشرية” للمعارضة الفلسطينية في دمشق، تلك التي كان حافظ الأسد يُصفّي بها كلّ حساباته المتأخرة مع “أبو عمار”، وأتقنت حماس كلّ ما أسند إليها من أدوار، فبدعوى الانتقام لاغتيال مهندسها يحيى عياش، نفذت عملياتها الانتحارية الشهيرة منتصف التسعينيات، وبعنوان فرعي غير مقروء: تعطيل تسليم المدن للسلطة الفلسطينية. هذه هي حماس وهذا جلدها الحربائيِّ، فعندما تتبدّل رسائل دمشق يمكن أن يُغتالَ ثلاثة من كبار قادتها “أبو شنب، الرنتيسي، ياسين”، تباعاً كالأهداف السهلة في تدريب عسكري، بعمليات اختراق فاضحة، دون أنْ تردّ، ولو بصاروخ.. إيراني الرأس.
دعكَ من دمع لا ملح فيه سال كالحرج على بيان الحركة في نعي ياسر عرفات، فموته كان فرصة السراج لترتقي على ما دون الفرس، من قيادات الإخوان من إسطنبول إلى لندن، هناك حيث تركت “حركة الأنابيب” أسنانها الصفراء على وجوه لها ملامح بشرية، تتحين فرصة صعود الهواء لتدلق حقدها على الطرف الآخر من الصورة: الصورة التي كلَّما ظنّت حماس أن بروازها الكلاسيكي قد كُسر، والكوفية سقطت منها أضلاع الخريطة الثلاثة، والصوت الذي فيها باللكنة المصرية اختفى من الجدار، عادت إليها في كوابيسها النهارية.. فـ عرفات اسم أخير لفلسطين، وقد تختفي الأسماء إلا رابعها.